الرئيسية » الاخبار الرئيسية »
 
16 تشرين الثاني 2020

شبكة الجيل الخامس الخليوية 5G وفبركة "أبحاث" لخدمة مصالح شركات الاتصالات

بقلم: د. جورج كرزم
الباحث والخبير في البيئة

بوابة اقتصاد فلسطين

يعد حَرْف الجدل العام حول الآثار الصحية لنشر شبكة الجيل الخامس الخليوية (G5)، المخطط لها في السنوات القادمة- يعد حرفها إلى مربع "المؤامرة"، من الآثار الجانبية المزعجة لجائحة كورونا. أصحاب نظرية "المؤامرة"، زعموا، من بين أمور أخرى، بأن نشر شبكة الجيل الخامس يعد عاملا في تسريع انتشار الكورونا.  كما زعم آخرون بأن شركات ضخمة تستغل الشلل العالمي (بسبب الكورونا) للسيطرة علينا بواسطة التكنولوجيا الجديدة.  لتقييم علمي للآثار الأكثر واقعية، يجب علينا العودة إلى الخبراء العاملين في هذا المجال؛ إذ أن عددا غير قليل منهم يثير مخاوف جدية تتعلق بالصحة العامة، والتي تحتاج إلى مناقشة.

لكن، قبل المضي قدما في مناقشة هذه المسألة، لا بد من التذكير بأن إسرائيل، في المستوى الفلسطيني، هي التي تتحكم وتقرر ترددات تشغيل الأجيال الخليوية المختلفة في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ وما تسمح به حاليا هو الجيل الثالث فقط (في الضفة) والجيل الثاني (في غزة).  ولا تزال إسرائيل تحظر ترددات تشغيل الجيل الرابع وتمنع إدخال الأجهزة والمعدات اللازمة لتشغيل الجيلين الرابع والخامس.  الاتفاقات الاستعمارية مع الاحتلال، وتحديدا المادة 36 من اتفاقية أوسلو، قيدت قطاع الاتصالات الفلسطينية إلى حد كبير، ومنحت الاحتلال حق الفيتو على تطوير هذا القطاع.  كما أن إسرائيل تتحكم بالمنافذ الدولية للاتصالات الفلسطينية، بحيث تستأجر الشركات الفلسطينية من الإسرائيليين السعات المحددة لتتمكن من الوصول للخارج من خلال الشركات الإسرائيلية.  علاوة على أن الشركات الفلسطينية ممنوعة من التغطية في أكثر من 60% من مساحة الضفة، وتحديدا في ما يسمى المناطق "ج".

والآن عودة إلى موضوعنا الأساسي، وهو الآثار الصحية-البيئية لشبكة الجيل الخامس الخليوية.  تقنية الجيل الخامس ستتمكّن من نقل كمية أكبر من المعلومات بالمقارنة مع الشبكات الحالية، وذلك من خلال ترددات موجات راديوية ميكروية أعلى، والتي تعتمد على أطوال موجات بالميلليمترات.  وسيتم، من خلال هذه التقنية، استخدام عدد كبير من منشآت الإرسال وتكنولوجيا "إزاحة الحزم الإشعاعية" والتي تسمح لمنشأة الإرسال بتعقب موقع المستخدم أثناء حركته وبالتالي أن تبث إليه موجة قصيرة ودقيقة.

نُشِرَت مؤخرا في مجلة "Health Physics" مراجعة حول جوانب السلامة والصحة المتعلقة بالجيل الخامس، كتبها مجموعة من الخبراء أعضاء في المعهد الدولي لمهندسي الكهرباء والإلكترونيات (IEEE). هذا المعهد واللجنة الدولية للحماية من الإشعاع غير المؤين (ICNIRP) هما الهيئتان اللتان تضعُ إرشاداتهما وتوصياتهما المعايير الدولية للوقاية من المخاطر الصحية الناجمة عن الإشعاع غير المؤين (أي أن الأشعة ليست من مصادر مشعة).

أشار مؤلفو المراجعة بأنهم، في ضوء خبرتهم وخلفيتهم المهنية، يشعرون بأن مسؤولية خاصة تقع على عاتقهم لتقديم "تقييم موضوعي" حول السلامة والتأثير الصحي للجيل الخامس.  وفقًا لأقوالهم، توجد في الأدبيات العلمية فجوات في المعلومات الصحية المتعلقة بالتعرض لترددات الموجات المليمترية؛ لذا فهم يوصون بإجراء مزيد من البحث لتحسين مستوى حماية الجمهور. ومع ذلك، فإن استنتاجهم النهائي هو أنه، وفقًا للمعايير الدولية، فإن احتمالية وجود مخاطر صحية غير معروفة ضمن حدود التعرض الحالية، منخفضة للغاية، هذا إن وجدت تلك المخاطر أصلا.  ومن بين أمور أخرى، استشهدت المجموعة بالوكالة الأسترالية للحماية من الإشعاع والسلامة النووية، التي زعمت، قبل حوالي عام، بعدم وجود دليل على أن التعرض للإشعاع مثل ذلك المتوقع من الجيل الخامس أو تقنيات الاتصال الأخرى، يمكن أن يؤثر على جهاز المناعة أو يسبب أضرارًا صحية أخرى، على المدى القصير أو الطويل.

تضارب المصالح

استنتاجات المراجعة المذكورة تتعارض مع دراسات ومنشورات علمية كثيرة أخرى. ويدعم ذلك وثيقة مفصلة أعدتها الدكتورة ياعِل شتاين، باحثة التأثيرات الإشعاعية في مركز "هداسا عين كارم الطبي" في القدس المحتلة.  وتستند الوثيقة أيضا إلى محادثات واستفسارات أجرتها شتاين مع باحثين آخرين حول العالم.  شتاين هي شريكة في مجموعة البحث التي تدرس تداعيات الموجات المليمترية، وقدمت مؤخرًا ورقة موقف بشأن نشر الجيل الخليوي الخامس إلى الهيئة الفيدرالية في الولايات المتحدة المسؤولة عن هذه القضية.

تشير الدكتورة شتاين إلى أنه وفقًا للعديد من الدراسات، هناك ما يدعو للقلق بشأن الآثار الصحية لتكنولوجيا الجيل الرابع (الحالي) والجيل الخامس. ومن بين أمور أخرى، يوجد خطر كبير لحدوث أورام سرطانية، ولتلف المادة الوراثية وأضرار في الجهاز العصبي.  فالآثار هي بيولوجية وليست فقط تلك المتعلقة بارتفاع درجة حرارة الجسم بعد التعرض للإشعاع.  كما تم توثيق الآثار الصحية الضارة عند التعرض للإشعاع بكثافة أقل بكثير من المواصفات الموصى بها.  شتاين تطرقت إلى بحث شاركت به في الجامعة العبرية، درس تأثير الترددات النموذجية للجيل الجديد.  وتوصل البحث إلى أن الغدد العَرَقِية في الجسم تعمل مثل الهوائيات، إذ أنها تمتص الإشعاع داخل الجلد وتضاعف من تأثيره على الجسم.

وثيقة هامة للاتحاد الأوروبي أشارت السنة الماضية إلى أنه لا توجد حتى الآن طريقة موثوقة لقياس إشعاع الجيل الخامس خارج المختبر، لذلك فإن الوعود والتطمينات بأن مستويات الإشعاع لن تكون مرتفعة هي غير حقيقية.  باحثون آخرون شددوا على السياسة الاحترازية التي اعتمدتها سويسرا؛ إذ تقرر هناك السماح بنشر التكنولوجيا الجديدة، شريطة أن تتضمن تحييد عملية "إزاحة الحزم الإشعاعية". يخشى السويسريون من أن هذه التكنولوجيا ستفاقم التعرض للإشعاع وبالتالي المخاطر الصحية.

ومع ذلك، لا يمكن إجراء نقاش حول الجيل الخليوي الخامس دون الرجوع إلى الهيئتين اللتين تحددان "مستوى الإشعاع الآمن"، وبخاصة اللجنة الدولية للحماية من الإشعاع غير المؤين(ICNIRP)؛ فهذه اللجنة ترفض باستمرار بشكل منهجي جميع الأدلة والاستنتاجات العلمية التي تشير إلى الأضرار البيولوجية الناجمة عن الإشعاع، حتى عندما يكون ذلك ضمن الحدود التي وضعتها اللجنة نفسها.  وتجدر الإشارة بشكل خاص إلى موقف اللجنة المتشكك تجاه بحث شامل نفذ في الولايات المتحدة حول هذا الموضوع، والذي وجد صلة بين التعرض للإشعاع وزيادة عدد حالات السرطان. وقد تم تأكيد نتائج هذا البحث أيضًا من قبل باحثين في معهد أبحاث معروف بإيطاليا.

ووفقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن أعضاء البرلمان الأوروبي، لا يوجد تقريبا في اللجنة الدولية (ICNIRP) خبراء بالعلوم الطبية، كما يبرز فيها بوضوح التأثير الكبير لممثلي قطاع تكنولوجيا الاتصالات وجهات مرتبطة به، ممن لديهم مصلحة في عدم تشديد المعايير التي تحمي الجمهور؛ كما أن خبراء في اللجنة الدولية شاركوا في صياغة دراسات ممولة من صناعة الاتصالات؛ ما يعد تضاربا في المصالح، وبالتالي شبهات فساد تحوم حول اللجنة، من حيث فبركة "أبحاث" يتم تطويعها لخدمة مصالح شركات الاتصالات.  علماء كثيرون غير مرتبطين بهذه اللجنة، يؤكدون بأن أعضاء الأخيرة لا يعرفون كيفية تقييم مخاطر الإشعاع بشكل صحيح، والمعايير التي ساهموا في صياغتها وتحديثها لا توفر للجمهور الحماية المناسبة.

دراسات السنوات الأخيرة والتأثير الكبير لأصحاب المصالح على الهيئات التي يفترض أن تحمينا من آثار الإشعاع، يتطلب تدخلا أقوى للأنظمة والمؤسسات العامة القادرة على رصد وتحليل تأثيرات الإشعاع. عدد الباحثين والمؤسسات العلمية في العالم الذين يعتقدون بأن هناك ما يدعو للقلق، يُلْزِم الحكومات بإعادة النظر في كيفية نشر الجيل الخليوي الجديد واستخدامه.

في وقت سابق من هذا العام، نشر بعض الباحثين مقالًا علميا في الدورية المتخصصة بعلم السمومToxicolgy Letters، تناول عواقب الإشعاع الناجم عن الجيل الخليوي الخامس؛ وفي الختام كتبوا ما يلي: "إضافة إشعاع G5 إلى البيئة الإشعاعية السامة أصلا من حولنا، سيؤدي إلى تفاقم العواقب الصحية المعروفة بالفعل.  هناك حاجة لأبحاث إضافية كثيرة وللمزيد من اختبارات الآثار الطبية لهذه الشبكة الخليوية في ظل ظروف الواقع الحقيقي خارج المختبر، قبل السماح بنشرها".

وللأسف الشديد، عندما تكون على المحك مصالح صانعي التكنولوجيا والهيئات الحكومية التي ترغب في تحسين قدرات المراقبة والإشراف، فإن فرص إعادة النظر في نشر الشبكة الجديدة، ستكون ضئيلة للغاية.

كلمات مفتاحية::
هل تتفق مع ما جاء في هذا المقال؟