الدفع الإلكتروني في غزة: بين قصف الصرّافات وجشع التجّار... من يحمي المستهلك؟
ملاك أبو رعية- بوابة اقتصاد فلسطين
في اليوم التالي للسابع من أكتوبر 2023، دخل قطاع غزة مرحلة غير مسبوقة من العدوان الإسرائيلي، لم تشهد مثيلاً لها الحروب السابقة. هذه المرة، لم يكن القصف عشوائيًا فحسب، بل اتّخذ طابعًا أكثر تدميرًا وشمولية، مستهدفًا أعمدة الحياة المدنية والبنية التحتية الحيوية، بما في ذلك القطاع المالي والمصرفي. لم تقتصر الضربات على المنازل والمدارس والمستشفيات، بل امتدت لتطال عشرات أجهزة الصراف الآلي المنتشرة في شوارع المدن الغزية، مما أدّى إلى أزمة سيولة نقدية خانقة، وفاقم هشاشة النظام المصرفي الذي يرزح أصلًا تحت وطأة الحصار المفروض منذ عام 2007.
وسط هذا الدمار، ومع تعرّض أكثر من 80% من أجهزة الصرافات للتعطيل في بعض المناطق، بحسب بيانات أولية صادرة عن "سلطة النقد الفلسطينية"، وجد المواطنون أنفسهم أمام واقع مالي معقّد، وغياب شبه تام للبنية التحتية النقدية التقليدية. في مواجهة هذا الفراغ، برزت خدمات الدفع الإلكتروني كحلّ طارئ لا بديل عنه. تحولت تطبيقات مثل "بال بي"، "جوال بي"، و"بنكي" من أدوات هامشية إلى منصات أساسية لتلبية الاحتياجات اليومية، بدءًا من تعبئة الرصيد ودفع الفواتير، وصولًا إلى تحويل الأموال وشراء الطعام والدواء.
لكن ما بدا في البداية استجابة تقنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، سرعان ما كشف عن معاناة أخرى تتعلّق بالفجوة الرقمية، وصعوبة الوصول، وتعقيدات الاستخدام في ظل الانهيار العام. في هذا السياق، تبرز شهادات المواطنين من قلب الأزمة كمرآة حقيقية تعكس عمق التحولات التي فرضتها الحرب على المشهد المالي الغزي، وتكشف أبعاد الاعتماد القسري على الأدوات الرقمية في بيئة تفتقر إلى الحد الأدنى من الاستقرار.
المواطن محمود وافي، في حديثه عن تجربته، تناول بالتحديد موضوع العمولات التي تُفرض عليهم عند طلبهم الحصول على الكاش من بطاقاتهم البنكية في السوبرماركت أو أي مكان آخر. وأوضح أنه لا يتم تزويدهم بالكاش إلا بفرض عمولة تتراوح بين 20% و 30%. وكمثال على ذلك، ذكر أنه عند شراء علبة عصير عن طريق البطاقة، تُباع له بخمسة شواقل بدلاً من ثلاثة شواقل. وأشار أيضاً إلى وجود تفاوت في قيمة العمولة المفروضة من تاجر لآخر.
وأضاف وافي أنه من المفترض وجود جهة رقابية على هؤلاء التجار الذين يستغلون هذا الوضع، مؤكداً أن الحرب لا يجب أن تكون سبباً لفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، ولا ينبغي أن تُستخدم كذريعة لتقصير الجهات المعنية بدورها الرقابي فيما يتعلق بعمولات السوق السوداء التي يفرضها التجار واختلافها من تاجر لآخر.
هذه الشهادات الحية تلقي الضوء على التحديات التي يواجهها المواطن في قطاع غزة في ظل الاعتماد المتزايد على الدفع الإلكتروني، وتؤكد على الحاجة الماسة لإجراءات رقابية فعالة تضمن حماية المستهلك ومنع الاستغلال.
في ظل الحرب المتواصلة لم يعد لدى المواطنين الغزيين رفاهية الاختيار بين النقدي والرقمي. الأمر تحول إلى واقع قسري فرضه غياب السيولة النقدية، وتدمير الصرّافات الآلية، وإغلاق فروع البنوك، الأمر الذي جعل من خدمات الدفع الإلكتروني وسيلة شبه وحيدة للحصول على السلع والخدمات الأساسية.
وفي ردها على ما ذكره المواطن محمود وافي، أكدت "سلطة النقد الفلسطينية" حرصها على تطوير بنية تحتية متقدمة للدفع الإلكتروني في فلسطين، بهدف تعزيز استخدام وسائل الدفع الرقمية في المعاملات المالية اليومية، لا سيما في ظل الظروف الراهنة في قطاع غزة، حيث أصبحت هذه الوسائل ضرورة ملحّة نظراً لشح السيولة النقدية الناتج عن العدوان وتبعاته.
وأضافت سلطة النقد أن خدمات الدفع الإلكتروني التي قدمتها عبر البنوك وشركات الدفع تُقدَّم للمواطنين مجاناً، دون أي عمولات تفرضها السلطة، مع استثناء حالات محدودة يُتحمَّل فيها بعض العملاء عمولات استخدام بطاقات الائتمان وفقاً للاتفاقيات الموقعة مع البنوك، وخصوصاً عند اختلاف عملة الدفع عن عملة الحساب.
وعن ممارسات بعض المحال التجارية بفرض عمولات إضافية على المستهلكين عند استخدامهم البطاقات أو تطبيقات الدفع، شددت السلطة على أن هذا السلوك يُعد مخالفاً لتعليماتها وغير أخلاقي، خاصة في ظل الأوضاع الإنسانية الصعبة، مؤكدة أنها تتابع هذه المخالفات عبر مراقبة الحسابات المشبوهة واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحق المخالفين، والتي قد تصل إلى تجميد حساباتهم.
ولضمان تفعيل دور المستهلك في حماية حقوقه، أطلقت سلطة النقد منصة إلكترونية تتيح للمواطنين التواصل المباشر معها والإبلاغ فورياً عن أي تجاوزات، حيث تُدرس البلاغات بشكل عاجل وتتخذ الإجراءات الرادعة لضمان تطبيق التعليمات وحماية المستهلك.
شهادات من قلب الأزمة
هلا وافي ، إحدى سكان مدينة غزة، تروي تجربتها الشخصية مع هذا التحول القسري: "كنت دائمًا أفضّل الدفع نقداً، لكن بعد الحرب، ما في صرافات، وما في سيولة، فاضطريت أستخدم تطبيق 'بال بي'، خصوصاً لما بدي أدفع فواتير الكهرباء والمياه، أو أشتري من السوبرماركت. مرات بدفع نص كاش ونص رقمي، عشان أقدر أوازن الأمور."
تقول وافي إنها شعرت بأمان أكبر بعد استخدام التطبيق، خاصة بعد أن تعرّضت للسرقة في وقت سابق، معتبرة أن الاعتماد على الخدمات الرقمية يحمي الأفراد من مخاطر حمل النقود في ظل الانفلات الأمني الناتج عن القصف المتواصل. لكنها لا تُخفي امتعاضها من قيمة العمولة المرتفعة، والتي تصل إلى 4 شواقل على كل معاملة مالية ، معتبرة أن "هالشي ممكن يكون مقبول في وقت السلم، لكن مش معقول نتحمل عمولات بهذا الشكل في وقت الناس فيه مش لاقية تاكل."
ولم يكن استغلال بعض التجار بعيداً عن تجربتها، حيث أوضحت أن بعض المحال تفرض رسوماً إضافية قد تصل إلى 20 شيكل على السلعة الواحدة عند استخدام الدفع الرقمي، ما يُعدّ خرقًا واضحًا لمبدأ العدالة الاجتماعية، ويضاعف الأعباء على المستهلك في وقت يُصارع فيه لأجل البقاء.
من جهة أخرى، تروي إسلام أمين ، وهي موظفة تقيم في حي الشجاعية، قصتها مع الاعتماد الإجباري على التطبيقات الرقمية، قائلة: "أنا موظفة، وما كنت أحتاج أدفع رقمي قبل هيك، بس خلال الحرب ما كان فيه خيار تاني. صرت أستخدم 'جوال بي' و'بنكي' علشان أقدر أتحرك وأشتري الأشياء الأساسية. بس المشكلة إنه لما تدفع رقمي، التجار بيرفعوا السعر، وفيه عمولة كمان، فصار الدفع الرقمي أغلى بكتير من الدفع النقدي، يمكن فرق %30."
هذه النسبة ليست مبالغة، ففي حالة شراء مواد غذائية أو تحويل مبالغ صغيرة، فإن احتساب العمولة الثابتة يرفع التكلفة الكلية بشكل غير مبرر، وخاصة في ظل غياب رقابة فعالة على سياسة تسعير العمولات أو ممارسات السوق المرتبطة بالدفع الرقمي.
الإجراءات الرقابية والاستجابة للأزمة
وكانت سلطة النقد اتخذت سلسلة إجراءات استباقية لضمان استمرارية الخدمات المصرفية وحماية بيانات المستخدمين. ويشير ريان الحنتولي، مدير العلاقات العامة والإعلام في سلطة النقد إلى إصدار توجيهات ملزمة للبنوك لتفعيل خطط استمرارية الأعمال، لافتاً إلى أن هذه التعليمات تشمل توفير مواقع بديلة للعمل وإنشاء مراكز متخصصة للتعافي من الكوارث، ما يضمن عدم توقف الخدمات الحيوية في أي ظرف كان.
ويضيف الحنتولي أن سلطة النقد شددت على شركات الدفع الإلكتروني تطبيق معايير أمنية فائقة الحماية، تشمل الإبلاغ الفوري عن أي محاولة اختراق وتفعيل أنظمة مراقبة متطورة لرصد الأنشطة الاحتيالية، مؤكداً أن هذه الإجراءات تهدف إلى بناء حصن رقمي يحمي أموال وبيانات المستخدمين في وجه أي تهديد.
يقول بشار ياسين، مدير جمعية البنوك في فلسطين: "نحن نبني جسورًا رقمية نحو مستقبل مالي أكثر ذكاءً وشمولية". ويضيف"الجمعية تواصل جهودها الحثيثة لنشر الوعي المصرفي وتشجيع تبني الخدمات الإلكترونية وقد تجلت هذه الجهود خلال الحرب بتفعيل أدوات الدفع الإلكتروني في قطاع غزة والتي مكنت المواطنين من إتمام معاملاتهم المالية رغم ظروف الحرب".
وفي مقابلة أجريت بتاريخ 27 مارس 2024 مع "أمان"، أكد هاني العالول، مدير مكتب الوزير، أن الوزارة تتبنى استراتيجية رقمية شاملة...
وأوضح العالول أن الوزارة تعتمد على المحافظ الإلكترونية، وأنشأت نظام تسجيل إلكتروني يتيح للأسر التسجيل للحصول على الدعم في حالات الطوارئ، مما يضمن سرعة الاستجابة وفعالية التوزيع. وأضاف العالول أن الوزارة تتعاون مع "سلطة النقد الفلسطينية" لاعتماد أنظمة دفع فوري مثل "إيبراق"، في خطوة تهدف إلى تعزيز الشفافية والكفاءة في توزيع الدعم، وتقليل فرص التلاعب والفساد.
في ظل الظروف الميدانية الصعبة التي فرضتها الحرب على قطاع غزة، كشف قيس عزموطي، مدير مكتب الوزير، عن التحديات الجسيمة التي تواجه وزارة المالية وسلطة النقد في الحفاظ على استمرارية الخدمات المالية. وأوضح عزموضي أن الحرب فرضت تحديا غير مسبوق على صعيد الحفاظ على تدفق الأموال في ظل انهيار البنية التكنولوجية وانقطاع الإنترنت وغياب السيولة النقدية".
وأضاف عزموطي أن هذه الظروف أدت إلى ارتفاع تكلفة الدفع الإلكتروني للتجار إلى مستويات قياسية، حيث تجاوزت الفوائد 30%، ما شكل عبئًا إضافيًا على الاقتصاد المتضرر. ومع ذلك، أكد عزموطي استمرار الوزارة في اعتماد المحافظ الإلكترونية، خاصة في التحويلات الاجتماعية، كحل بديل للتخفيف من آثار الأزمة، مشيرًا إلى أن هذه الجهود تتم بالتنسيق الكامل مع سلطة النقد لضمان استقرار النظام المالي في ظل هذه الظروف الاستثنائية.
بدوره، أوصى مدير المكتب الإقليمي لائتلاف امان في قطاع غزة وائل بعلوشة بضرورة التنسيق بين "سلطة النقد الفلسطينية" والجهات الحاكمة في قطاع غزة، لتوفير بيئة رادعة للمحتالين والمبتزين، ولحماية المواطنين من الوقوع ضحية الابتزاز والاحتيال، ولتوفير بيئة آمنة لعمل البنوك والصرافين.
كما دعا إلى ضرورة تعزيز الصرافين المرخصين لدى سلطة النقد وتمكينهممن الحصول على قدر أكبر من السيولة، لضمان أدائهم لمهامهم وفقضوابط "سلطة النقد الفلسطينية" وتعليماتها.
وطالب بممارسة الضغط من أجل إنهاء ظاهرة التكييش والعمولات الطائلة، ونشر قوائم سوداء لمن يثبت تورطه بهذه العمليات ورفعها لجهات الاختصاص لأخذ الإجراءات القانونية بحقهم بعد انتهاء الحرب.
خاتمة وتوصيات
في ضوء ما كشفه التقرير من تجاوزات في عمولات الدفع الرقمي في قطاع غزة، خاصة في ظل الحرب وتفشي الفقر المدقع، يوصي التقرير بضرورة أن تبادر "سلطة النقد الفلسطينية" إلى مراجعة شاملة لسياسات العمولات المفروضة من قبل شركات الدفع الإلكتروني، لضمان انسجامها مع المعايير الوطنية للعدالة الاجتماعية والوضع الاقتصادي الاستثنائي.
كما يُوصى بتشديد الرقابة على مزودي خدمات الدفع، وإلزامهم بالإفصاح العلني عن آليات احتساب العمولات، بما يعزز الشفافية ويمكن المواطنين والجهات الرقابية من المتابعة والمساءلة.
وتبرز الحاجة كذلك إلى تعزيز قدرات الصرافين المرخصين، وتوفير السيولة اللازمة لهم وفق ضوابط واضحة، بما يسهم في كبح ظاهرة "التكييش" غير القانوني والعمولات المبالغ بها.
كما يُوصى بتفعيل دور المجتمع المدني، وعلى رأسه ائتلاف أمان، في رصد الانتهاكات وتوثيق شكاوى المواطنين، وإنشاء آلية مستقلة لتلقي البلاغات والتعامل معها بجدية.
وأهمية تبني خطة وطنية للاستجابة المالية الطارئة، ترتكز على تعزيز الخدمات المالية الرقمية الآمنة، وتوفير إعفاءات أو تخفيضات على رسوم الدفع الإلكتروني للأسر المتضررة، بما يحقق قدراً أكبر من العدالة والشفافية في إدارة الأزمات.
وبعد أن كشفنا النقاب عن حجم المعاناة التي تكبّدها المواطنون الغزيون نتيجة انعدام السيولة وتفشي ظاهرة العمولات المبالغ بها، وصوت الشهادات الحية التي راحت تصف واقعًا لا يطاق، وأكدَّنا ضرورة تدخل الجهات الرقابية وتفعيل الأدوات القانونية والرقمية لحماية المستهلك ...هل سيبقى المواطن حقلًا مفتوحًا للتجّار المستغلين، أم ستتحول هذه اللحظة الفارقة إلى نقطة انطلاق حقيقية نحو ضبط السوق الرقمي وإنهاء عهد “العمولة السوداء” في غزة؟؟
ومع ذلك، من الضروري التمييز بين التحول الرقمي كخيار تقني مفيد، وبين الانتهاكات التي رافقت تطبيقه. فالمشكلة الأساسية لا تكمن في الرقمنة بحد ذاتها، بل في العمولات غير القانونية التي تُفرض على المستهلكين، وفي ضعف الإجراءات الرادعة من قبل الجهات الرقابية المختصة. هذه الممارسات خلقت حالة من الاستغلال وسط غياب بيئة تنظيمية صارمة تحمي حقوق المواطنين.
من المهم التأكيد على أن التحول نحو الدفع الإلكتروني، في ظل الانهيار النقدي وشح السيولة، يمثل خطوة إيجابية وضرورية، لكنه لن يكون فاعلًا وعادلاً دون فرض رقابة صارمة على الجهات التي تستغل هذا التحول لتحقيق أرباح غير قانونية من خلال فرض عمولات عالية على المواطنين. الرقمنة ليست عبئًا في حد ذاتها، بل تصبح كذلك حين تُترك بلا ضوابط، وتتحول إلى أداة جديدة من أدوات الاستغلال.