الرئيسية » الاخبار الرئيسية » أقلام اقتصادية »
 
27 أيار 2025

قنابل الشيكل: متى تنفجر أزمة النقد في البنوك الفلسطينية؟

بقلم: د. سعيد صبري
مستشار اقتصادي دولي- وشريك إقليمي وممثل لصندوق المبادرات- فاستر كابتل - بدبي

بوابة اقتصاد فلسطين

فائض نقدي خانق، اتفاقيات معلقة، وسيادة نقدية مفقودة

تشهد البنوك الفلسطينية في الضفة الغربية أزمة مالية متنامية جراء تراكم كميات هائلة من عملة الشيكل الإسرائيلي في خزائنها، في ظل استمرار رفض السلطات الإسرائيلية استلام هذا الفائض، بالرغم من التزامها الواضح بذلك بموجب اتفاقية باريس الاقتصادية الموقعة عام 1994. هذه الأزمة، التي تبدو للوهلة الأولى تقنية أو مصرفية، تعكس في العمق خللاً هيكليًا في بنية العلاقة الاقتصادية الفلسطينية-الإسرائيلية، وتهدد بتداعيات واسعة على النظام المصرفي، الاقتصاد المحلي، والاستقرار المالي العام.

نص قانوني واضح... وممارسة إسرائيلية مخالفة

نصّت اتفاقية باريس الاقتصادية، الملحقة باتفاق أوسلو، على التزام إسرائيل بتسهيل عمل البنوك الفلسطينية، وبشكل خاص على استلام الفائض النقدي من الشيكل المتداول في الأراضي الفلسطينية من خلال البنوك التجارية، وبالتنسيق مع بنك إسرائيل.

لكن وعلى أرض الواقع، تُخضع إسرائيل عملية استلام الفائض النقدي لشروط تعجيزية، من بينها تحديد سقوف زمنية ومالية، وإجراءات أمنية معقدة تتضمن فحصًا فرديًا للودائع النقدية ومصادرها، وفرض قيود مفاجئة على التحويلات أو إيقافها دون سابق إنذار. كل ذلك يتم في غياب آلية تحكيم مستقلة أو جهة رقابية دولية تُلزم إسرائيل بتنفيذ ما تعهدت به.

من أين يتدفق الفائض؟

رغم تراجع نشاط العمالة الفلسطينية داخل إسرائيل مؤخرًا، إلا أن الشيكل لا يزال العملة الأكثر تداولًا داخل السوق المحلية، سواء في القطاعات التجارية، أو المؤسساتية، أو الحكومية، ما يعني أن الفائض النقدي بالعملة الإسرائيلية لا يزال في تزايد مستمر، دون وجود قناة قانونية لتصريفه.

وتُظهر تقديرات حديثة نُشرت في صحيفة "فايننشال تايمز" في يوليو 2024 أن حجم الفائض النقدي المتراكم في البنوك الفلسطينية يتراوح بين 6 و8 مليارات شيكل، ما يعادل نحو 1.6 إلى 2.15 مليار دولار أمريكي. وهذا الرقم الضخم يعكس حجم التحدي الذي يواجهه القطاع المصرفي الفلسطيني، وسط القيود الإسرائيلية المفروضة على تصريف النقد.

دور "سلطة النقد الفلسطينية"... مسؤولية وضرورة التحرك العاجل

في ضوء هذه الأزمة المتصاعدة، تبرز مسؤولية "سلطة النقد الفلسطينية" باعتبارها الجهة الرسمية المنظمة لعمل الجهاز المصرفي، والمعنية بضمان استقرار السيولة وأمن الدورة النقدية. ويتعيّن على سلطة النقد التحرك السريع لإيجاد حلول عملية وتنظيمية، منها:

•    الضغط المباشر على الجانب الإسرائيلي، من خلال قنوات سياسية واقتصادية، لتنفيذ التزاماته وفق اتفاق باريس.

•    تنويع قنوات تصريف الفائض النقدي عبر التنسيق مع جهات إقليمية أو دولية، أو استخدام آليات مقايضة مع دول مجاورة.

•    تعزيز التحول الرقمي والدفع الإلكتروني، للحد من الاعتماد على النقد الورقي.

•    إطلاق حملة توعوية واسعة للقطاع الخاص والمستهلكين، للحد من الاعتماد المفرط على الشيكل في المعاملات المحلية اليومية.

•    النظر في مقترحات فنية مثل تخفيض قيمة فوائد ودائع الشيكل، لتقليل الإقبال على الاحتفاظ بالنقد بشكل مباشر.

تأخر الاستجابة الرسمية، أو الاكتفاء بالمعالجة التقنية الضيقة، قد يؤدي إلى مخاطر بنيوية على النظام المالي الفلسطيني، ويقوّض ثقة المواطنين في القطاع المصرفي ككل.

مخاطر اقتصادية متراكمة

إلى جانب العبء الأمني واللوجستي على البنوك، فإن استمرار الفائض يُؤدي إلى:

•    شلل في حركة السيولة: عدم قدرة البنوك على تصريف النقد يضعف من قدراتها الإقراضية، ويؤثر على دورة الاقتصاد.

•    انكشاف مالي متزايد: استمرار تكدس النقد يرفع من احتمالات التزوير، والسرقة، والتلف.

•    تقييد النمو الاقتصادي: تعثر العمليات المصرفية يُعطّل الاستثمارات ويؤثر على ثقة القطاع الخاص.

وقت المراجعة: من الاتفاق إلى الاستقلال

لقد آن الأوان لإعادة فتح ملف اتفاقية باريس الاقتصادية، ومراجعة بنودها بما يتوافق مع الواقع الاقتصادي والسياسي الراهن. فبعد ثلاثين عامًا من تطبيقها، بات من الواضح أن هذه الاتفاقية تقيّد قدرة الاقتصاد الفلسطيني على النمو، وتُكرّس التبعية المالية لإسرائيل.

كما أن الأزمة الحالية تكشف بشكل صارخ غياب السيادة النقدية الفلسطينية، وتُعيد طرح سؤال العملة الوطنية والآليات البديلة لإدارة الاقتصاد بعيدًا عن النفوذ المالي الإسرائيلي.

خاتمة: لم يعد ممكناً الانتظار

إن تراكم الشيكل في البنوك الفلسطينية ليس مجرد فائض نقدي، بل أزمة سيادية مُقنّعة، تستدعي تحركًا فلسطينيًا عاجلًا وشاملًا بقيادة سلطة النقد، بالتنسيق مع الجهات الحكومية والقطاع الخاص والمؤسسات الدولية.

الوقت ليس في صالح أحد. وإذا لم تُعالج هذه "القنابل النقدية المؤجلة" قريبًا، فإن تكلفة الانفجار قد تكون باهظة على الاقتصاد الفلسطيني بكافة مكوناته.

كلمات مفتاحية::
هل تتفق مع ما جاء في هذا المقال؟