تقرير البنك الدولي: الاقتصاد الفلسطيني يواجه كارثة مالية وديون متراكمة تهدد بالانهيار البنيوي
رام الله – بوابة اقتصاد فلسطين
أطلق البنك الدولي تحذيرًا شديد اللهجة في تقريره الصادر في يونيو 2025 حول شفافية الدين العام، مسلطًا الضوء على ما وصفه بـ"الوضع الاقتصادي الكارثي" الذي تعيشه الأراضي الفلسطينية في أعقاب 17 شهرًا من التصعيد العسكري، والانكماش الحاد في الأداء الاقتصادي، وارتفاع الدين العام إلى مستويات غير مسبوقة.
ديون متفاقمة ومتأخرات خطرة: صندوق التقاعد في عين العاصفة
كشف التقرير أن نسبة الدين العام الفلسطيني بلغت 86.3% من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية عام 2024، مع توقعات بارتفاعها إلى 94.6% في 2025، ثم 96.1% في 2026، وهي مستويات تنذر بخطر الدخول في دوامة أزمة مديونية خانقة، وتستدعي تدخلاً عاجلاً.
وبحسب البيانات، فإن المتأخرات (الديون غير المسددة) تمثل 55% من إجمالي الدين العام، أي ما يعادل 6.4 مليار دولار، وتشمل:
وبينما تتراجع المساعدات الخارجية إلى أدنى مستوياتها منذ تأسيس السلطة، لجأت الحكومة إلى تمويل داخلي مفرط عبر الاقتراض من البنوك وتأجيل المدفوعات، مما وضع القطاع المصرفي تحت ضغوط هائلة.
إنكماش تاريخي وانهيار النشاط الاقتصادي
في تقرير موازٍ حول مراجعة الإنفاق العام، أشار البنك الدولي إلى أن الاقتصاد الفلسطيني سجل أسوأ انكماش منذ عقود، حيث تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 27% خلال عام 2024. وكانت غزة الأكثر تضررًا، بانكماش بلغ 83% نتيجة الحرب المدمرة، فيما انكمش اقتصاد الضفة بنسبة 17%، متأثرًا بالقيود الإسرائيلية المشددة.
كما قدّر البنك، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، خسائر رأس المال الثابت في قطاع غزة بنحو 29.9 مليار دولار – أي ما يعادل ضعف الناتج المحلي للضفة وغزة قبل الحرب.
التقرير وصف الوضع بـ"شبه الانهيار الكامل للنشاط الاقتصادي"، وسط دمار البنية التحتية، وركود التجارة، وتوقف الإنتاج، وارتفاع البطالة إلى مستويات غير مسبوقة: 80% في غزة، و33.5% في الضفة الغربية.
أزمة متجذرة لا تقتصر على الحرب
يشدد البنك الدولي على أن الأزمة الاقتصادية الراهنة ليست وليدة الحرب فحسب، بل هي نتاج تراكمي لعوامل متشابكة:
-الحصار المتواصل على غزة منذ 2007.
-السيطرة الإسرائيلية على الموارد والمعابر والمنطقة (ج).
-الانقسام السياسي الفلسطيني الداخلي.
-اقتطاعات المقاصة غير القانونية.
الانهيار التدريجي في الدعم الدولي، الذي هبط من 27% من الناتج المحلي في 2008 إلى 2% في 2023، قبل أن يرتفع مؤقتًا إلى 6% في 2024.
توصيات عاجلة: إعادة ضبط بوصلة المالية العامة
يحذر التقرير من أن غياب الإصلاح، واستمرار الأزمة المالية، سيقودان إلى انهيار بنيوي يصعب تعافيه في الأمد المنظور. لذلك، أوصى البنك الدولي بعدد من الإجراءات العاجلة، أبرزها:
-ضبط الإنفاق الجاري، وخاصة مخصصات الرواتب والعلاوات.
-تحسين الشفافية في إدارة الدين العام.
-هيكلة المتأخرات، لاسيما ديون صندوق التقاعد.
-توسيع القاعدة الضريبية دون الإضرار بالنشاط الاقتصادي.
-استعادة أموال المقاصة بشكل منتظم، ووقف الاقتطاعات الإسرائيلية التعسفية.
-وضع خطة استجابة مالية مستدامة وواقعية بالتنسيق مع المجتمع الدولي.
-"صندوق التقاعد ابتُلع": ضريبة العجز والسياسات المؤجلة
واحدة من أخطر الإشارات التي وردت في التقرير تتعلق بـديون صندوق التقاعد المدني، التي قاربت 3 مليارات دولار، ما يثير مخاوف جدية بشأن قدرة السلطة على الوفاء بالتزاماتها المستقبلية تجاه المتقاعدين، ويضع الحقوق التقاعدية للأجيال الحالية والمقبلة على المحك.
هذا الرقم الكبير يعكس خللًا بنيويًا في الإدارة المالية، إذ تواصل الحكومة صرف المعاشات من أموال لم تعد تُحوّل فعليًا، مما يجعل الصندوق في حالة نزيف تدريجي أشبه بالإفلاس المؤجل.
إن ما ترسمه تقارير البنك الدولي ليس مجرد أرقام، بل جرس إنذار مرتفع يُحمّل كافة الأطراف – فلسطينيًا ودوليًا – مسؤولية وقف الانهيار.
فمن دون وقف الحرب، واستعادة الثقة، وإجراء إصلاحات جذرية، فإن السلطة الفلسطينية تسير نحو مأزق مالي قد يصعب الخروج منه، وستكون الرواتب، والخدمات، وحقوق المواطنين، أولى ضحاياه.