من يربح من اقتصاد النقد؟ تحقيق يكشف أسباب الانفجار المالي في الضفة منذ الحرب

بوابة اقتصاد فلسطين
يكشف تحقيق موسّع، تابعه موقع بوابة اقتصاد فلسطين استنادًا إلى صحيفة ذا ماركر العبرية، عن واحد من أخطر التحولات المالية التي شهدتها الضفة الغربية منذ اندلاع الحرب في غزة. فخلال أشهر قليلة فقط، تضاعف حجم النقد المتداول في السوق الفلسطينية، وامتلأت خزائن البنوك بالشيكل إلى حدّ لم تعد معه قادرة على استقبال أي إيداعات نقدية جديدة. هذا الانفجار النقدي لم يربك البنوك الفلسطينية وحدها، بل شلّ أيضًا قنوات الدفع بين الضفة وإسرائيل، ودفع التجارة الثنائية إلى حافة التوقف.
تبدأ جذور الأزمة من نقطة تبدو تقنية في ظاهرها: بنك إسرائيل يفرض سقفًا محددًا لكمية النقد الذي يسمح للبنوك الفلسطينية بإيداعه لديه - وهو 4.5 مليار شيكل كل ربع سنة. قبل الحرب، لم يكن السقف يشكّل أي عائق، إذ كانت الإيداعات النقدية أقل بكثير من هذا الحد. لكن الحرب قلبت قواعد اللعبة. فجأة تدفقت كميات هائلة من النقد، وتجاوزت البنوك الفلسطينية السقف بأشواط، ما دفع بنك إسرائيل إلى وقف استقبال الإيداعات. ومع انسداد هذه القناة، لم يعد أمام البنوك الفلسطينية سوى خيار واحد: وقف استقبال النقد من العملاء. هكذا دخلت الضفة في اختناق نقدي لم تعرفه منذ سنوات.
ورغم توقف العمال الفلسطينيين عن العمل داخل إسرائيل، وتراجع حركة المتسوقين الإسرائيليين نحو الضفة - وهما عاملان كان يفترض أن يخفضا كمية النقد في السوق - إلا أن ما جرى كان العكس تمامًا. النقد تضاعف، والضفة غرقت في السيولة. أجهزة "الأمن" الإسرائيلية تحاول اليوم تفسير هذا اللغز، وتطرح فرضيات تتراوح بين تدفق "الأموال السوداء" الهاربة من قانون تقييد النقد في إسرائيل، والالتفاف على المقاطعة التركية لبضائع إسرائيل عبر مسارات تمر من الضفة، وترتيبات مالية جديدة قد تكون التنظيمات المسلحة لجأت إليها لتعويض القنوات الرسمية التي تعطلت بسبب الحرب. أما العامل الأكثر تأثيرًا، وفق خبراء إسرائيليين، فيتعلق بالمناخ السياسي المتوتر، فتهديدات وزير المالية بتسلئيل سموتريتش المتكررة بقطع العلاقات المصرفية دفعت قطاعات واسعة إلى تخزين النقد بدل إيداعه.
هذا التصعيد السياسي لم يقف عند حدود التصريحات. فقبل ساعات من انتهاء المهلة السابقة للعلاقة المصرفية، قرر الكابنيت الأمني تمديدها لأسبوعين فقط، بذريعة أن البنوك الفلسطينية لم تغلق حسابات بعض المشتبه بصلتهم بتنظيمات مسلحة. لكن مصادر مهنية - كما تنقل ذا ماركر -تشير إلى أن هذه الذريعة قديمة ومعروفة، وأن إسرائيل كانت طوال السنوات الماضية تخصم تلقائيًا من أموال الضرائب لتعويض ما تدفعه السلطة للأسر ذات الصلة بالعناصر المسلحة. لهذا، تبدو الخطوة أقرب إلى مناورة سياسية يستخدم فيها سموتريتش - وربما نتنياهو - ملف البنوك الفلسطينية كأداة ضغط تخدم حسابات تتجاوز الجانب المالي.
وفي خلفية هذا المشهد المضطرب، يبرز السؤال الأخطر: من المستفيد من اقتصاد نقدي بهذا الحجم؟ الواقع أن تمدد النقد خارج النظام المصرفي يخلق بيئة مثالية لعالم المال المعتم، حيث تغيب الرقابة وتنتعش الجريمة المنظمة وغسل الأموال وتمويل الإرهاب. هذا ما حذّرت منه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية مرارًا، وهي ترى اليوم أن كثيرًا من المؤشرات التي كانت تخشاها بدأت تتحقق بالفعل. فطالما بقيت المبالغ الكبيرة خارج النظام البنكي، يصبح تتبعها أصعب، وتزداد قدرة الشبكات المالية الموازية على التحرك بعيدًا عن أي ضبط.
ورغم أن الجهات الإسرائيلية تبحث الآن في رفع سقف الإيداع للبنوك الفلسطينية، يرى الخبراء أن هذا حل يعالج العرض لا المرض. فالمصلحة الأمنية والاقتصادية -من وجهة نظرهم - تكمن في تقليص الاعتماد على النقد، ودفع الاقتصاد الفلسطيني تدريجيًا نحو التحويلات الرقمية والأدوات المصرفية. أي مسار معاكس، مثل التلويح بقطع العلاقات المصرفية، لا يؤدي إلا إلى زيادة الفوضى، وإضعاف قدرة المؤسسات على الرقابة، وتوسيع المساحات التي يتحرك داخلها الاقتصاد الموازي.
في النهاية، يظهر التحقيق أن اقتصاد النقد في الضفة لا يخدم الاستقرار المالي، ولا يساعد على التنظيم، بل يعزز مصالح غير مرئية تتحرك تحت السطح. وبينما تخسر السلطة الفلسطينية والبنوك والتجارة الرسمية، يجد اللاعبون في الظل - من الجريمة المنظمة إلى الشبكات غير القانونية - أنفسهم أكبر المستفيدين من أزمة لم يكن أي طرف جاهزًا لها.