مناشير قباطية: ذهبٌ حاضر وبيئةٌ غائبة واحتجاج صامت!
تحولت بلدة قباطية ( 6 كيلومترات جنوب جنين) إلى منجم مفتوح، ويُسمي أغلب أهلها حجارتها بـ"الذهب الأبيض"، فالكتل والصخور التي تُقلع من أراضيها، وتُكسّر منشآتها، وتنشرها أو تعيد تشكيلها قرابة مائة ورشة ومنشار تترك آثارًا عديدة على الهواء والتربة، مثلما تدرّ أرباحًا وتوفّر فرص عمل، وتخلق آراءً متناقضة حول مخاطرها الصحية والبيئية.
عبد الباسط خلف- مركز معا التنموي
رئيس بلدية قباطية محمود كميل يشير الى حكاية الحجارة البيضاء، والتي بدأت منذ القرن الماضي في هذه الحرفة، وخلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الفائت شق الأهالي حرفتهم بطرق بدائية، ثم راحوا يستأجرون الجرافات الضخمة ( دي ناين) من حيفا، واليوم تطروت وبدأ عددها يقترب من المائة منشار إضافة إلى أربع كسارات ونحو 20 محجرًا (مقلعًا).
بدأ نضال خليل (40 عامًا) العمل في مناشير الحجر منذ عام 1989 يوم كان في الرابعة عشرة، وصار اليوم يدق الحجارة، يقول "الدقّيق سيد نفسه، ويستريح متى يشاء، ولا نلبس الكمامات، ونأخذ الأجر مقابل كل متر مربع ننجزه، أما العمال في النشر والقص فيشتغلون بالساعة."
ووفق خليل، يحصل العامل العادي بين 15-25 شيقلاً لقاء كل ساعة. أما الستيني عبد القادر أبو الرب فيعمل منذ 10 سنوات في تطويع الحجارة، ولا يبالي كثيرًا بالغبار، ويتخلى عن وضع الكمامة الواقية؛ لأنها لا تتيح لصاحبها الحركة بحرية.
ويقول الثلاثيني حسن أبو إدريس إنه يعمل منذ 20 سنة في منشار حجر لكنه يتخذ إجراءات وقائية فيرتشف الحليب ويلبس الكمامات.
وتوزع وزارة الصحة ونقابات العمل إرشادات للمشتغلين في المناشير كالحرص على الملابس الواقية، واستعمال الكمامات، وشرب الحليب يوميًا حرصًا على رئة سليمة، لكن شريحة من العاملين لا يلتزمون بها كحال محمد كميل؛ بدعوى أنها تشكل عائقًا وأن ما سيقع لن تغطي تكلفته شركات التأمين.
عمال وبيئة
يقول رئيس البلدية كميل: "تُعدّ المناشير ثروة محلية للبلدة، وتوفّر فرص تشغيل لنحو خمسة آلاف مواطن، وبدأت هذه المعامل في مناطق نائية عن البلدة، إلأ أن الأهالي صاروا يقيمون بيوتًا بجانبها، فأصبحت المناشير بين المساكن، وأخذ بعض المواطنين يتقدمون لنا بشكاوي لما تسببه من ضجيج وغبار وإزعاج."
ويضيف: حاولت جهات رسمية في جنين تأسيس منطقة صناعية لتجميع هذه المعامل، لكنها اصطدمت بتكاليف النقل الباهظة، ولم تكن الجهود كبيرة للعمل.
ووفق رئيس البلدية، أن الحل ليس بيد البلدية وحدها، بل مرهون بتوفر تمويل وبجهود جماعية للمؤسسات المختصة.
متضررون ومستفيدون
يضيف: "المتضررون مستفيدون من مناشيرهم أيضاً، ونتعامل مع الشكاوي التي تصلنا، ونؤكد أن البلدية مع تنظيم هذه الصناعة، ولكن لا نطرح قضية إغلاقها، ونوازن بين مصالح الناس وصحتهم، ونتوافق مع نقل المناشير إلى منطقة صناعية خارج المخطط الهيكلي لبلدتنا، وهذا الأمر مرهون بتوفير ممول وبنية تحتية وتعاون المؤسسات، ولا يفكر أحدٌ في إغلاق هذه المنشآت؛ لأن ذلك سيؤدي إلى ثورة اجتماعية."
ويؤكد رئيس قسم الصحة بالبلدية أحمد كميل "أن المناشير غير حاصلة على رخصة من البلدية، لكن يجري ربطها بشبكتي المياه والكهرباء." ويقول:" يُشغّل كل منشار نحو 20 عائلة، وإذا ما تقدم المواطن بشكاوي ضدها، فإن المخالف يٌقدم إلى المحكمة، ويحكم أحيانًا بدفع غرامة بسيطة ( 10 أو 20 أو 100 دينار)، ونأمل أن تكون هناك خطة وطنية لحل الأزمة؛ لأن البلدية تعجز لوحدها عن توفير ذلك."
حلول مستقبلية
يقول رئيس قسم الهندسة في البلدية م. مهند شواهنة: "المناشير بمعظمها في مناطق سكن (أ) و(ب) ومنطقة (أ) المستقبلية، ونراعي في التخطيط المخطط الفيزيائي لتجمع جنوب جنين( قباطية ومسلية والزبابدة)، على أرض قرب بلدة الزبابدة ومكان المستعمرة التي انسحب منها جيش الاحتلال، لكن الأمر بحاجة إلى قرار وتمويل، وحتى لو جرى تنفيذه فإنه يحتاج إلى 2 ميغا من التيار الكهربائي، وهذا ما سنعجز عن توفيره؛ لأن جنين كلها تحصل على 7 ميغا فقط."
وحسب شواهنة فإن المنطقة الصناعية في المخطط الهيكلي القديم أو الجديد المقترح لا تستوعب المناشير والكسارات والمقالع، بل تخصص للحرف والإنشاءات البسيطة، مثلما راعى المخطط القديم وضع 17 دونماً كمساحات خضراء.
شكاوي غائية
يفيد رئيس اتحاد صناعات الحجر والرخام أسامة كميل أن المناشير حصلت بمعظمها على ترخيص من سلطات الاحتلال قبل قدوم السلطة الوطنية، وكانت غالبيتها موجودة في مناطق نائية نسبيًا، لكن الأهالي صاروا يقتربون من هذه الورش.
ووفق أسامة كميل، فإن المناشير منتشرة في ثلاث مناطق: على طريق الزبابدة، وفي شارع الشهداء (المدخل الجنوبي لجنين)، وحول الجامعة العربية الأمريكية، وهي توفر فرص عمل مباشرة لنحو 1200 مواطن، ويحصل 4000 مواطن على عمل غير مباشر فيها كالسائقين والفنيين ودقيقي الحجارة.
واقع وحل
لكن مدير سلطة جودة البيئة في جنين م. عبد المنعم شهاب يقول: "نتابع الشكاوي، ونكشف على المواقع، وسبق أن أجبرنا صاحب منشار داخل جنين على إقامة سور وغرس أشجار حول معمله، وخلال الشتاء تردنا شكاوى خاصةً بسبب مخلفات الروبة التي تخرج إلى الشارع الرئيس كما في طريق الشهداء، ولكننا نتابع معالجتها في برك خاصة ونعيد استخدامها، والبعض يتخلص منها بطرق مؤذية تضر بالأرض والزرع والمياه الجوفية".
ويرى شهاب بأن نقل المناشير إلى منطقة صناعية لا سكان فيها يتطلب تكلفة باهظة، كما أن المشكلة في تطبيق قانون الصحة الأردني، الذي يفرض غرامات قليلة ويغفل قانون البيئة الفلسطيني الصادر عام 1999.
يزيد:" سبق ان اقترحنا في الماضي حلولاً جذرية للمناشير كبناء سور مرتفع يفصلها عن الشوارع الرئيسة، وغرس أشجار حولها، وفتح طرق خلفية لها، لكن الأمر مكلف، ويحتاج إلى جهات لتطبيقه. وسبق أن طرحت دراسات لنقلها وتجميعها في منطقة صناعية، لكن ذلك لم يُنفّذ، بل جرى ربطها بالكهرباء وتثبيت موقعها الحالي بين البيوت."
ينهي شهاب: "نحتاج إلى تفعيل الرقابة، وتكثيف حملات التفتيش، وإعادة البحث عن بديل جذري في منطقة صناعية بعيدة عن الأهالي، ولا تسبب التلوث والإزعاج لهم."