الرئيسية » أقلام اقتصادية »
 
16 تشرين الثاني 2020

نعم، الحكومات تساهم في خلق الثروات!

بقلم: ماريانا مازوكاتو
أستاذ كرسي الاقتصاد في جامعة (London College)

لم يعترف علماء الاقتصاد أبداً بفكرة أن القطاع العام يساهم في خلق الثروات. ولكن في الحقيقة، هو كذلك، وإذا اعترفنا بذلك قد يحدث تغيير شامل.
خصص عدد كانون الثاني 2010 من مجلة "ذي ايكونوميست" للحديث عن مخاطر الحكومات الكبيرة.
واختير لغلاف العدد صورة كبيرة لوحش، وتستهل الافتتاحية بهذه الكلمات: "لدى عالم الأغنياء خياران: التعلم من أخطاء الماضي، أو أن يقف بلا حراك وهو يشاهد اللوياثان (وحش بحري) يكبر ليصبح وحشاً حقيقياً".
في عدد أحدث، كرس للحديث عن الثورات التكنولوجية المستقبلية، ذكرت المجلة أن الحكومة يجب أن تلتزم بوضع قواعد للعبة: الاستثمار في السلع الأساسية كالتعليم والبنية التحتية، من ثم التنحي جانبا حتى تتمكن الشركات الثورية من القيام بدورها. وهي بالطبع ليست وجهة نظر جديدة. فعلى مدار تاريخ الفكر الاقتصادي. كان يُنظر للحكومة طوال الوقت على أنها ضرورة إلا أنها غير منتجة، منفق ومشرع، أكثر منها خالقة للقيمة. إلا أن في ذلك استخفافا كبيرا بقدرة الحكومة على إنتاج القيمة، وهو خطأ أدى في الواقع لتمكين لاعبين آخرين من تقلد موقع خاص بهم في خلق الثروات.
ومع ذلك، من الصعب طرح فكرة تغير دور الحكومة وإقناع الناس بها عندما لا يكون حتى مصطلح "القيمة العامة" متعارفا عليه في الاقتصاد.
هناك بالطبع مفهوم مهم في الاقتصاد وهو "السلع العامة" - السلع التي يستفيد الجميع منها، والتي تتطلب قيام القطاع العام بالعمل كمزود لها لأن القطاع الخاص لا يقوم بإنتاجها.
إلا أن هذا المفهوم استخدم أيضا لوضع عراقيل أمام الأنشطة التي قد تقوم بها الحكومة (في محاولة لحصر المجالات التي يعد عمل القطاع العام فيها مقبولا) بدلاً من مساعدتها على التفكير كيف يمكنها إنتاج القيمة في الاقتصاد بسبل خلاقة.
ورغم قوة الرأي السائد بأن الحكومة غير كفؤة ويجب "الحد" من الدور الذي تمارسه حتى لا تتسبب باضطرابات في السوق، إلا أنه رأي خاطئ؛ وهو نتاج تحيز أيديولوجي ولا يستند لأكثر من ذلك.
وقد أضعفت ثقتها بأدائها والثقة بها، وحدت من الدور الذي يمكنها أن تلعبه في رسم السياسات الاقتصادية، وقللت من أهمية مساهمتها في الناتج القومي، ما أفضى لمسار خاطئ بالتوسع في مشاريع الخصخصة، وتعهيد الخدمات من الخارج، وتجاهل الحجة التي تنادي بمشاركة دافعي الضرائب بمنافع العملية الجماعية - العامة لخلق القيمة، والتي أدت للمزيد من الأنشطة القائمة على استخلاص القيمة (Value Extraction)، لا خلق القيمة.
ومع ذلك، فقد أصبحت هذه الروايات مقبولة كأنها شيء مثبت أو بديهي - وهو مصطلح يجب التعامل معه دائما بحذر. لقد اعتدنا سماع الكثير من الكلام حول إيجابيات وسلبيات التقشف. إلا أن الجدل حول الحكومة، يجب ألا يكون عن حجمها أو ميزانيتها. إنما يجب أن يدور السؤال الجوهري حول القيمة التي تساهم الحكومة في خلقها؟ لأن تساؤلنا حول دور الحكومة في الاقتصاد يعني تساؤلنا حتماً حول قيمتها الذاتية (Intrinsic Value) لكن، كيف يمكن قياس قيمة أنشطة الحكومة؟
استعادة الثقة وتحديد المهمات
وفقا للمفكر الاقتصادي كينز Keynes، على الحكومات أن تخطط على نطاق واسع أو أن تكون طموحة - بحيث تحدد "مهمة" تريد تحقيقها، لا أن تقوم بدور البديل للقطاع الخاص، وإنما تسعى لتحقيق شيء مختلف اختلافا جذريا عنه. من الخطأ تفسير مقولة كينز على أنه يعتقد أن غايات السياسة العامة مجرد إصلاح ما لا يفعله القطاع الخاص، أو ما يفعله بصورة سيئة، أو على الأقل أن تستثمر في اتجاهات وتدخلات معاكسة.
بعد الكساد العظيم، نادى كينز بأن مجرد دفع أجور للعمال مقابل حفر الخنادق وردمها يمكن أن ينعش الاقتصاد - وهو ما ألهم فرانكلين روزفلت فتجاوز سقف طموحه ما يسمى اليوم المشاريع القابلة للتنفيذ الفوري (مشاريع بنية تحتية سهلة) وشملت الصفقة الجديدة (New Deal) أنشطة ابتكارية تنفذ تحت إشراف إدارة سير الأعمال WPA، وسلك الخدمة المدنية CCC، والإدارة الوطنية للشباب NYA.
وبالمثل، من غير الكافي خلق الأموال في الاقتصاد من خلال سياسة التيسير الكمي (Quantitative Easing)؛ هناك حاجة لخلق فرص جديدة للاستثمار والنمو - ويجب أن تكون البنية التحتية والتمويل جزءا لا يتجزأ من خطط ممنهجة وموسعة من أجل التغيير.
وقد كانت اللغة التي استخدمها الرئيس جون كينيدي في خطابه الشهير في جامعة رايس العام 1962 عن إرسال رائد فضاء أميركي إلى القمر، لغة جريئة. وقد تحدث يومها عن ضرورة أن تكون لدى الحكومة خطط توجهها، إذ ذكر قائلا:
"لقد اخترنا الذهاب إلى القمر خلال هذا العقد، وعمل أمور أخرى ليس لأن الأمر سهل، وإنما لأنه أمر صعب. لأن الهدف هو اختبار وتنظيم طاقاتنا ومهاراتنا، ولأننا لا نرغب في تأجيل هذا الأمر وننوي الفوز به والفوز بغيره أيضا".
بعبارة أخرى، من واجب الحكومة أن تكون طموحة وتخطط لبعيد وتواجه العقبات والصعوبات التي لا بد ستواجهها. فقد أدى استبدال هذه الطموحات الجريئة بسياسات مالية جامدة، تعتمد على تحليل التكاليف والفوائد، إلى ضياع القيمة العامة التي يمكن أن تخلقها الحكومات. فموظفو الخدمة المدنية مطالبون بالتنحي وترك المجال لغيرهم، وتقليص النفقات، والتفكير مثل القطاع الخاص والعمل بحذر حتى لا يرتكبوا الأخطاء. كذلك الدوائر الحكومية لديها توجيهات بترشيد نفقاتها، ما يؤثر بلا شك على مهارات وقدرات هياكل المؤسسات العامة المعنية (الإدارات والهيئات، ... وغيرها). عندما تتوقف الحكومة عن الاستثمار في بناء قدرات كوادرها، تصبح أقل ثقة بأدائها، ومحدودة القدرات، وترتفع احتمالية الفشل. كما يصبح من الصعب تبرير مسوغات بعض وظائف الحكومة، ما يعني المزيد من الترشيد والاقتطاعات أو حتى قد ينتهي الأمر بخصخصتها. وبهذا الشكل تصبح قلة الثقة بالحكومة والإيمان بها كنبوءة تحققت: فعندما لا نؤمن بقدرة الحكومة على خلق القيمة، سينتهي بها الأمر غير قادرة على ذلك. وعندما تستطيع خلق قيمة، يتم التعامل مع هذه القيمة على أنها إنجاز من إنجازات القطاع الخاص أو قد يمر دون أن يثير انتباه أحد.
المطلوب هو فهم جديد وأعمق للقيمة العامة، وهو تعبير متعارف عليه في الفلسفة، إلا أنه مفقود في اقتصاد اليوم.
فالحكومة هي أصلا من بنى وطور البنية التحتية والتكنولوجيا الأساسية التي أسست عليها رأسمالية القرن العشرين، حتى وإن لم تلق تقديرا كافيا لإنجازاتها مثل الرقاقات الإلكترونية الدقيقة وتكنولوجيا نظام تحديد المواقع العالمي (GPS). بالطبع، لن تكون الرواية دائما إيجابية. لكن قبول الدخول في تحديات صعبة يعني استعدادها للاستكشاف والتجربة وارتكاب الأخطاء والتعلم من هذه الأخطاء.
إذا ما اعترفنا بأن دور الدولة يجب ألا يكون مجرد الإنفاق بل الاستثمار والمجازفة، سيكون من المنطقي جدا أن نتأكد أن السياسات ستعمل ليس فقط على تعميم (socialization) المخاطر بل أيضا العوائد.
إن إعادة توزيع المخاطر والمكافآت، على الجهات الفاعلة من القطاعين العام والخاص، يمكن أن تحول النمو الذكي القائم على الابتكار إلى نمو شامل. كما شاهدنا، تتجاهل نظرية القيمة للمدرسة النيوكلاسيكية في الغالب القيمة التي تقوم الحكومة بخلقها، مثل القوى العاملة المتعلمة، والرأس مال البشري، والتكنولوجيا التي نراها على شكل منتجات ذكية. يتم تجاهل دور الحكومة في الاقتصاد الجزئي- دراسة الإنتاج - باستثناء تنظيم أسعار مدخلات ومخرجات الإنتاج.
أما دورها في الاقتصاد الكلي، الذي يعنى بالتعامل مع الاقتصاد ككل، أكبر، وإن تمثل في أحسن الأحوال بتوزيع الثروة التي تخلقها الشركات، وكمستثمر في "الظروف المواتية التي تحتاجها الشركات - البنية التحتية، والتعليم، وتنمية المهارات، ... الخ".
رسخت النظرية الحدية (Marginal Theory) فكرة أن القيمة المنتجة جماعيا هي نتاج المساهمات الفردية. إلا أن الاقتصادي الأميركي، جورج أكرلوف George Akerlof، الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد العام 2001 بالشراكة مع آخرين، يقول: "منتجاتنا الحدية ليست لنا وحدنا" - فهي نتاج عملية تراكمية من التعلم والاستثمار. تستلزم عملية خلق القيمة الجماعية قطاعا عاما مجازفا - إلا أن العلاقة المعتادة بين المخاطر والعوائد، كما درسنا عنها في كليات الاقتصاد، لا تبدو ممكنة. لذا فإن السؤال الجوهري ليس حول القيمة التي تمثلها الحكومة ولكن أيضا العوائد الناتجة عنها: كيف ينبغي توزيع عوائد الاستثمار بين القطاعين العام والخاص؟
كما ذكر الاقتصادي روبرت سولو Robert Solow، لا تعود معظم مكاسب الإنتاجية في النصف الأول من القرن العشرين للعمل ولرأس المال بل للتغيرات التكنولوجية. ولا يعود ذلك فقط لتحسن خدمات التعليم والبنية التحتية، ولكن أيضاً للجهود الجماعية التي أدت لبعض التغييرات التقنية الأكثر راديكالية حيث كان للقطاع العام تاريخياً موقع قيادي - "الدولة الريادية". لكن تعميم المخاطر لم يرافقه تعميم المنافع اجتماعياً. ويجب علينا أن نغير هذا النهج.

ماريانا مازوكاتو-  أستاذة في اقتصاد الابتكار والقيمة العامة في جامعة كلية لندن

هل تتفق مع ما جاء في هذا المقال؟