الرئيسية » الاخبار الرئيسية » في دائرة الضوء »
 
18 أيار 2025

الاقتطاعات الإسرائيلية من ضريبة المغادرة ..نحو معالجة منهجية لاستعادة الحقوق المالية

اخلاص طمليه- بوابة اقتصاد فلسطين

يشكّل التسرب المالي من خزينة السلطة الفلسطينية تحدياً جوهرياً يهدد استدامتها المالية وقدرتها على التخطيط الاقتصادي الفعّال. وبقدر ما يرتبط هذا التسرب بعوامل داخلية، مثل محدودية القاعدة الضريبية وضعف آليات التحصيل، إلا أن الاقتطاعات الإسرائيلية غير القانونية من أموال السلطة الفلسطينية تظل العامل الأشد تأثيراً. وهي جزء من سياسة منهجية تهدف إلى استنزاف وإفقار الخزينة الفلسطينية، وتقويض قدرات السلطة الفلسطينية إلى درجة تهديد وجودها واستقرارها.

ومن بين هذه الاقتطاعات، يبرز احتجاز سلطات الاحتلال لحصة السلطة الفلسطينية من ضريبة المغادرة المفروضة على المسافرين عبر معبر الكرامة[1]، مما يحرم الخزينة العامة من موارد مالية حيوية كان من الممكن توظيفها في سد العجز الحالي وتحقيق الاستقرار المالي. ويبقى التساؤل الرئيسي كيف يمكن استعادة هذه الأموال المحتجزة من قبل الاحتلال، وما هي الخطوات القانونية والإجرائية التي ينبغي اتخاذها لضمان استرداد هذه الحقوق المالية التي تمثل جزءاً أساسياً من السيادة الفلسطينية؟

في ظل المعطيات السابقة، وتراكم الاقتطاعات التعسفية يصبح تسليط الضوء على ملف الاقتطاعات من ضريبة المغادرة ضرورة ملحّة لفهم أبعاده وانعكاساته خصوصاً غي ظل الأزمة المالية الراهنة التي تتصف بأنها الأشد عمقاً وتعقيداً منذ تأسيس السلطة الفلسطينية. هذا التحقيق يتناول الأسئلة الجوهرية التالية، والتي لم توضح للمواطن الفلسطيني حتى اللحظة:

  1. البعد القانوني: هل تتعارض هذه الاقتطاعات مع الالتزامات التي أُقرت في بروتوكول باريس أو أي اتفاقيات أخرى تنظم العلاقة المالية بين الجانبين؟
  2. حجم الاقتطاعات من ضريبة المغادرة: كم يبلغ حجم الإيرادات المتأتية من ضريبة المغادرة؟ وكم تبلغ حجم الاقتطاعات التي تفرضها سلطات الاحتلال من هذه الإيرادات؟
  3. التحرك الفعلي لاستعادة المستحقات: ما مدى فاعلية الجهود الدبلوماسية والقانونية والإدارية في تشكيل حراك للضغط على إسرائيل للالتزام بتحويل الإيرادات وفق الاتفاقيات الموقعة؟ وهل يمكن للمحاكم الدولية أن تلعب دوراً في معالجة هذا الخلل البنيوي في العلاقة المالية بين الجانبين؟

لا تتعلق الأسئلة السابقة بفهم الأبعاد التقنية والمالية لاقتطاعات ضريبة المغادرة فحسب، وإنما تطرح تساؤلات أعمق حول بنية العلاقة الاقتصادية والقانونية التي تحكم تحصيل ضريبة المغادرة بين السلطة الفلسطينية و"إسرائيل"، ومدى قدرة الجانب الفلسطيني في الوقت الراهن على تطوير أدوات تمكنه من الخروج من حالة التبعية المالية التي فرضها بروتوكول باريس.

برتوكول الارتهان الاقتصادي

في عام 1994، أُبرم بروتوكول باريس الاقتصادي كملحق لاتفاقيات أوسلو، لتنظيم العلاقات الاقتصادية بين السلطة وإسرائيل. لاحقًا، تم الاتفاق على ضريبة مغادرة تُفرض على كل فلسطيني يغادر عبر جسر الكرامة، حُددت آنذاك بـ 26 دولاراً فقط[2].

الاتفاق كان واضحاً أول 750 ألف مسافر سنوياً تُوزع ضريبتهم بنسبة 14 دولاراً لإسرائيل، و12 دولاراً للسلطة. بعد تجاوز هذا العدد، تنقلب النسبة لصالح الفلسطينيين: 16 دولاراً للسلطة، و10 فقط للاحتلال. ولكن، كما في معظم الاتفاقيات مع الاحتلال، كان الشيطان في التفاصيل… أو بالأحرى تورطنا مع من لا عهد لهم ولا ميثاق.

اليوم، تسترد السلطة فقط 10.5  دولار من أصل 50  دولاراً تُجبى فعلياً من كل مسافر، بعد أن رفعت إسرائيل قيمة الضريبة من طرف واحد، دون أي تنسيق أو تعديل رسمي للاتفاق حسب الشكل التالي. ما يعني أن الاحتلال لا يكتفي بفرض الرسوم، بل يُحدد قيمتها، ويحتفظ بنصيب الأسد منها.

وراء الأرقام والنسب، تتكشف منظومة مالية غير متكافئة تُنهك الخزينة العامة الفلسطينية وتُبقي الاقتصاد الوطني رهينة للهشاشة والاعتماد، لا سيما في ظل استمرار الاقتطاعات الإسرائيلية من ضريبة المغادرة. والتي لا يمكن فصلها عن اتفاقية باريس الاقتصادية، والتي رسّخت اختلالاً هيكلياً في منظومة جباية الإيرادات العامة يتيح لإسرائيل هيمنة شبه الكاملة على المفاتيح الحيوية للإيرادات، وعلى رأسها أموال المقاصة التي تمثل أكثر من 67% من الإيرادات العامة.

في هذا السياق، يكشف د. محمد أبو كوش، الخبير الاقتصادي ومنسق وفد الخبراء في محادثات اتفاقية باريس الاقتصادية، إلى أن "ما يحصل حالياً من هيمنة إسرائيلية على إيرادات الجمارك، بما فيها ضريبة المغادرة، كان متوقعاً منذ المفاوضات الأولى". ويضيف "الغلاف الجمركي الموحد كان العقبة الجوهرية، إذ منح وزير المالية الإسرائيلي سلطة مباشرة على كامل منظومة التحصيل الجمركي، بما يشمل ضريبة المغادرة. وقد كان هذا من أبرز مواضع اعتراضي خلال المفاوضات، لكن الرأي الفني تم تهميشه لصالح قرارات سياسية على المستوى الوزاري الفلسطيني."

ويتابع أبو كوش أن التحذيرات من هذا الخلل طُرحت بوضوح قبل توقيع الاتفاق، لكن غابت آليات الحماية والتصحيح، مما جعل كل محاولات استرداد السيطرة المالية لاحقاً تصطدم بالقيود الإسرائيلية. ويضيف "مسألة الغلاف الجمركي الموحد كانت مفتاح المفاوضات الاقتصادية، والباقي تفاصيل "

بالإضافة إلى ذلك، تُعَدُّ الاقتطاعات الإسرائيلية من أموال الضرائب الفلسطينية انتهاكاً صارخاً للاتفاقيات الدولية التي تكفل حق الشعوب في السيطرة على مواردها المالية. فوفقاً للقانون الدولي، لا يجوز لدولة الاحتلال فرض قيود مالية غير مبررة على الأراضي التي تحتلها. كما تنص اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 على ضرورة حماية الممتلكات والأموال الخاصة والعامة في الأراضي المحتلة، وتُحَرِّم على القوة المحتلة استغلال الموارد الاقتصادية بما يضر بسكان تلك الأراضي[3].[4] كما يؤكد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على حق الشعوب في تقرير مصيرها والسيطرة على ثرواتها ومواردها الطبيعية، ويحظر حرمان أي شعب من موارده الخاصة.[5]

وفي هذا السياق، يشير الخبير الاقتصادي د. ثابت أبو الروس إلى أن "العلاقة المالية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي تفتقر إلى أي مستوى من الشفافية، حيث تقتصر المعلومات المتاحة على ما يمليه الجانب الإسرائيلي فقط". ويضيف أن "السلطة الفلسطينية في وضع يتسم بالضعف في مواجهة تصرفات إسرائيل، حيث تفتقر إلى القدرة على التحقق من الأرقام الفعلية التي تقوم إسرائيل بجمعها نيابة عنها".

أما فيما يتعلق بضريبة المغادرة، فيؤكد أبو الروس أن "الزيادات المستمرة التي تفرضها إسرائيل على ضريبة المغادرة تتم بشكل أحادي، وهي ليست قرارات اقتصادية بحتة، بل هي قرارات سياسية تهدف إلى التضييق على الفلسطينيين وإرهاقهم مالياً دون أي مسوغ قانوني لها".

ويشدد أبو الروس على أن "لو قام الجانب الإسرائيلي بإيداع أموال ضريبة المغادرة في خزينة السلطة الفلسطينية، إلى جانب مستحقات المقاصة المحتجزة، لما كان هناك عجز مالي لدى السلطة".

 

حجم الاقتطاعات

بناء على أعداد المسافرين لعام 2024 حيث بلغ مليون و750 ألف ما بين قادم ومغادر، نصفهم تقريباً مغادرون خلال عام 2024[6]، فإن العائدات المقدرة للخزينة الفلسطينية نتيجة للاقتطاعات الإسرائيلية من أموال ضريبة المغادرة لعام 2024 كالتالي:

 

تقدير العائدات من ضريبة المغادرة لعام 2024[7]

اول 750 ألف مسافر

حصة فلسطين

9,000,000

حصة "إسرائيل"

10,500,000

المستولى عليه من الاحتلال الإسرائيلي

18,000,000

أكثر من 750 ألف مسافر

حصة فلسطين

1,920,000

حصة "إسرائيل"

1,200,000

المستولى عليه من الاحتلال الإسرائيلي

2,880,000

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر: تقديرات معدة التقرير، بناء على إحصاءات المسافرين لعام 2024.

وإذا ما أردنا تقدير خسائر الحصة الفلسطينية لعام 2024 فقط نتيجة عدم تقاسم الزيادات المفروضة تعسفياً على ضريبة المغادرة، حسب البيانات في الجدول أعلاه، يكون الناتج ما يقارب 10 مليون وثمانون ألف دولار.

وحسب تقرير حديث لوزارة المالية الفلسطينية فإن إجمالي الاقتطاعات من رسوم المغادرة على معبر الكرامة تجاوز 1.2 مليار شيكل.[8]  وحسب مصادر مطلعة بلغت العائدات منذ عام 2008 وحتى نهاية 2020، نحو 729.6 مليون شيكل، فيما أضيف إليها ما يقارب 304.7 مليون شيكل خلال الفترة 2021-2023. وتشير التوقعات إلى أن العائدات المتوقعة حتى نهاية 2024 قد تصل إلى نحو 270 مليون شيكل إضافية. [9]

وعلى الرغم من حساسية ملف ضريبة المغادرة ودوره المحوري في بنية الإيرادات العامة، فقد تم الاعتماد على تقديرات غير رسمية نتيجة امتناع الإدارة العامة للمعابر عن مقابلة معدّة التقرير أو تقديم أية معلومات ذات صلة بآليات تحصيل الضريبة أو تفاصيل تقاصها مع الجانب الإسرائيلي، مؤكدة بأنها "ليست طرفاً" في هذه العملية.

وعلى المنوال ذاته، رفضت وزارة الشؤون المدنية إجراء مقابلة أو تزويد معدّة التقرير بأي معلومات. أما وزارة المالية، فقد امتنعت هي الأخرى عن الإفصاح عن حجم الإيرادات المتأتية من ضريبة المغادرة أو عن قيمة الاقتطاعات التي تُجريها إسرائيل منها، ما يتعارض بشكل صارخ مع مبدأ الحق في الوصول إلى المعلومات الذي يكفله القانون الأساسي الفلسطيني.

ولم تقتصر فجوة المعلومات على الجهات التنفيذية، إذ تبيّن أن ديوان الرقابة المالية والإدارية لم يُجرِ، وفقاً لتقاريره السنوية المنشورة، أي تدقيق خاص على إيرادات ضريبة المعابر، كما لم تُدرج هذه الإيرادات ضمن تقارير تدقيق الحساب الختامي. وعلى الرغم من مخاطبته رسمياً، لم يزوّد معدّة التقرير بأي معلومات تدقيقية أو نتائج تفتيش مالي بشأن هذا الملف.

رسوم عبور أم إنهاك للمواطن

في كل مرة تخطط فيها عائلة فلسطينية لمغادرة الضفة الغربية عبر معبر الكرامة باتجاه الأردن، تجد نفسها أمام ضريبة لا تفرق بين رضيع أو مسنّ، مريض أو معاق. إذا أرادت أسرة مكوّنة من سبعة أفراد السفر إلى الأردن فيجب عليها إعادة ترتيب أولويات الشهر بأكمله، حيث تحتاج إلى 1,246 شيكلاً لعبور المعبر، عدا عن رسوم الحافلات ونقل الأمتعة. هذه التكلفة الباهظة تُثقل كاهل الأسر الفلسطينية، خصوصاً في ظل التدهور الاقتصادي والوضع المتردي.

الحملة الوطنية لحرية الحركة (بكرامة) كانت من أبرز الجهات التي طالبت بإلغاء ضريبة المغادرة، بل وخاضت معارك قانونية ضد الجهات الرسمية، أبرزها وزارة المالية، مطالبة بوقف جبايتها فوراً. د. طالب عوض، رئيس الحملة، يوضح في حديثه لأمان أن "الحملة استخدمت مختلف الوسائل المشروعة للضغط على صناع القرار، بدءاً من الحملات التوعوية، مروراً بالمساءلة المجتمعية، وصولاً إلى التوجه للقضاء".

ويتابع "بينما يدفع المواطن العربي رسوماً رمزية لعبور الحدود، يُجبر الفلسطيني على دفع أضعاف ذلك، وهو أمر غير منطقي في ظل ما نعيشه من حصار وتضييق اقتصادي وسياسي." ويؤكد د. عوض أن “الضريبة تحولت إلى عبء مالي ثقيل، يدفع الكثير من العائلات إلى تأجيل سفرها، أو تقليص عدد أفرادها المسافرين، أو حتى التخلّي عن الزيارة أو العلاج أو الدراسة في الخارج". هذا الواقع لا يُسهم فقط في تعميق الفجوة الطبقية، بل يعيد إنتاج العزلة الاجتماعية، ويحدّ من قدرة الفلسطينيين على بناء شبكات علاقات خارجية.

ويؤكد د. عوض " لا يوجد أي تفسير مقنع لارتفاع قيمتها من 98 شيكلًا في عام 2008 إلى 178 شيكلاً حالياً، في ظل ركود اقتصادي مزمن، وتراجع في الدخل الفردي الحقيقي، وتضخم يلتهم القوة الشرائية للفلسطينيين. كما يشير أن "اقتطاع الاحتلال جزءاً من إيرادات الضريبة يُفاقم من الإشكالية إذ يجعلها أداة تمويل لسلطة الاحتلال من جيب المواطن الواقع تحت الاحتلال".

قنوات الضغط لاستعادة الحقوق

فيما يتعلق بالتحركات المطلوبة لاسترداد الحقوق المالية الفلسطينية، يؤكد أبو الروس، الذي يعتبر أن "ضريبة المغادرة هي حق فلسطيني خالص"، وأن "الدولة الحاضنة لاتفاقية أوسلو، وهي النرويج، يجب أن تتدخل لضمان التزام إسرائيل بتحويل المستحقات المالية الفلسطينية بشكل شفاف وعادل".

 لكنه في الوقت نفسه ينتقد آليات معالجة الملف فلسطينياً، مشيراً إلى أن "الأولى بالسياسيين الفلسطينيين، بدلاً من البحث عن مصادر تمويل جديدة والاعتماد على الهبات والتبرعات، التوجه إلى المحافل الدولية لتفعيل الحق الفلسطيني في هذه الأموال واستردادها بدلاً من التسول السياسي".

ويشدد أبو الروس أن المرحلة الحالية تشكل "فرصة ممتازة للجوء إلى الطرق والآليات القانونية للضغط على الاحتلال الإسرائيلي واسترداد كافة مستحقات المقاصة، خصوصاً في ظل الاهتمام الأمريكي بالحفاظ على استقرار السلطة الفلسطينية". ويرى أبو الروس أن هذا الملف يجب "ألا يبقى طي الكتمان، بل يجب تدويله وطرحه في المحافل الدولية"

ويرى الخبير في القانون الدولي د. رائد بدوية أن "بروتوكول باريس لا يعد معاهدة دولية وأي بند في هذا الاتفاق ينتهك أي من حقوق سكان الأرض المحتلة أو يستغل مواردهم الاقتصادية بما لا يتفق مع اتفاقية جنيف الرابعة فيعتبر لاغي وهو لا يرقى لتصنيف المعاهدة الدولية"

ويردف أبو بدوية" إذا سلمنا جدلا أن نعتبر بروتوكول باريس معاهدة سياسية، إلا أن هذا الاتفاق لم يوجد آليات سياسات وقانونية للاحتكام اليها في حالة وجود خروقات من أي طرف، ولا يوجد أي آليات تنفيذ قانونية"، ويضيف " مرجعيتنا القانونية هي اتفاقية جنيف الرابعة، والتي تؤكد أن سلطة لاحتلال هي فقط جهة إدارية لشؤون السكان بشكل مؤقت، وأي موارد من هذه الأرض أو السكان تعود لمصلحة السكان""

ويضيف أبو بدوية " القانون الدولي يعتبر أحد أدوات العلاقات الدولية وليس الأداة المسيطرة، مجالات التحرك الدولي لاسترداد المقاصة موجودة لكن ضعيفة، لكن يجب استثمار الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الذي يقضي بأن هذا الاحتلال غير شرعي، ويحب تعويض المواطنين الفلسطينيين عن أي أضرار".

ويوصي أبو بدوية "باستصدار قرارات من الجمعية العامة بالمقاطعة المالية للمؤسسات الداعمة للاحتلال، وبالرغم من أنها غير ملزمة للدول، إلا أنها تشكل حالة ضغط على الاحتلال ومؤسساته، ويجب أن يكون ضمن خطة وطنية متكاملة تسبقها إرادة سياسية" ويرى أبو بدوية أن " وزارة الخارجية يحب أن تقود الحراك، على جميع الأصعدة للجمعية العامة، ومجلس حقوق الانسان"

من جهته، يعقب د. محمد رحال، الخبير في القانون الدولي، قائلًا: "إسرائيل لا تواجه أي ضغوط فعلية تدفعها لتغيير سياساتها، سواء على الصعيد الدبلوماسي أو القانوني أو الحقوقي". ويعزو هذا إلى خلل في موازين القوى على الساحة الدولية". ويضيف أن "الاحتلال الإسرائيلي يواصل انتهاكاته دون أي اعتبار للردود الدولية، حيث يدير ظهره للمجتمع الدولي ويستمر في مخالفة قرارات المؤسسات الأممية".

ويشير د. رحال إلى أن "الأدوات القانونية لم تثبت فاعليتها، حيث أن قرارات محكمة العدل الدولية، رغم رمزيتها، لم تؤدِ إلى أي نتائج ملموسة على الأرض". ويضيف أن "مجلس الأمن الدولي يبقى عاجزاً عن فرض عقوبات بسبب الفيتو الأمريكي، مما يعكس اختلال ميزان العدالة في النظام الدولي".

في ختام حديثه، يرفض د. رحال الحلول غير الواقعية، مؤكداً أنه "يجب الاعتراف بالواقع كما هو، دون تجميل". ويرى أن التعويل على المجتمع الدولي وحده ليس خياراً مجدياً، بل يجب على الفلسطينيين أن يبنوا استراتيجية موحدة لمواجهة الاحتلال على مختلف الأصعدة، السياسية والاقتصادية والميدانية، دون انتظار حلول خارجية قد لا تأتي أبدا ً.

بدائل وآليات لاستعادة الاقتطاعات: من الانكار إلى الفعل

في ظل تفاقم الواقع المالي القائم على علاقة تبعية غير متكافئة مع سلطة الاحتلال، وفي ضوء ما أفرزته المعطيات الراهنة من استمرار الاستيلاء الممنهج على أموال المقاصة الفلسطينية، أضحى من الضروري تبني مقاربة متعددة المسارات، تستند إلى أدوات القانون الدولي، وتستثمر الإمكانيات الدبلوماسية، وتنهض بمنظومة الإدارة المالية الوطنية، في سبيل تقليص التبعية واسترداد الحقوق المالية المسلوبة.

فعلى المستوى القانوني والدبلوماسي، تبرز الحاجة الملحة لتفعيل المسارات القانونية الدولية، بما يشمل التوجه إلى محكمة العدل الدولية، استناداً إلى ما تنص عليه اتفاقية جنيف الرابعة، وكذلك مراجعة مدى التزام إسرائيل بالاتفاقيات الثنائية، ولا سيما بروتوكول باريس الاقتصادي. كما يشكل الانخراط النشط في المنظومة الأممية، من خلال مجلس حقوق الإنسان وغيره من المؤسسات ذات الصلة، أداة مهمة لتوثيق هذه الممارسات كخروقات ممنهجة للقانون الدولي. ومن شأن تفعيل الضغط السياسي عبر الدول الراعية لمسار أوسلو، خاصة النرويج، أن يعيد تسليط الضوء على مسؤولية المجتمع الدولي في لجم الإجراءات الأحادية الإسرائيلية.

أما على صعيد الإجراءات المالية، فإن أحد الحلول العملية لتقليص الهيمنة الإسرائيلية على النظام المالي الفلسطيني يكمن في تعديل آلية الجباية والتقاص. حيث يتعين على السلطة الفلسطينية أن تتبنى آلية تقوم من خلالها بتحصيل إيراداتها الضريبية مباشرة من المواطنين، ومن ثم تحويل المستحقات المقررة للجانب الإسرائيلي. هذا التعديل في آلية الجباية، إذا ما تم طرحه كخيار تفاوضي مدعوم من الأطراف الأوروبية الموقعة على بروتوكول باريس، قد يشكل رافعة قوية للحد من استخدام أموال المقاصة كأداة ابتزاز سياسي، ويتيح للسلطة الفلسطينية المزيد من السيطرة على مواردها المالية. بدلاً من أن تكون أموال المقاصة مجرد وسيلة للضغط السياسي من قبل الاحتلال،

في المقابل، يتطلب الواقع الداخلي الفلسطيني إصلاحات عميقة في بنية الإدارة المالية، وعلى رأسها إدارة إيرادات ضريبة المغادرة. إذ لا بد من إعادة هيكلة هذا الملف بما يكفل الشفافية الكاملة، من خلال التزام وزارة المالية بنشر تقارير دورية مفصلة، تتضمن بيانات دقيقة عن الإيرادات المحصلة ونسب الاقتطاع الإسرائيلي. كما ينبغي تفعيل دور ديوان الرقابة المالية والإدارية، وإنشاء آليات رقابة مستقلة تعزز من ثقة الجمهور بآليات إدارة المال العام. ولتحقيق ذلك، يتطلب الأمر الارتقاء بمستوى الإفصاح في التقارير المالية، عبر تبويب موسع وإيضاحات تحليلية تسهّل على الباحثين والمهتمين تتبع مسارات الإنفاق والتحصيل.

غير أن هذه الإجراءات، على أهميتها، لا تكتمل دون إعادة تموضع شاملة للعلاقة المالية الفلسطينية–الإسرائيلية. فالاتفاقيات التي وُقّعت في ظروف استثنائية قبل أكثر من ربع قرن لم تعد قادرة على تلبية أبسط متطلبات النمو الاقتصادي الفلسطيني، ناهيك عن ضمان الحقوق المالية السيادية. لذا، فإن المضي قدماً نحو تقليص الاعتماد على أموال المقاصة يتطلب استراتيجية تنموية وطنية، تركز على توسيع القاعدة الإنتاجية، وتعزيز قدرة الحكومة على تعبئة الإيرادات المحلية من خلال إصلاح النظام الضريبي وتحسين كفاءة التحصيل.

في نهاية المطاف، لا يمكن قراءة هذا الملف بمعزل عن البنية الاستعمارية التي تحكم العلاقة الاقتصادية بين الطرفين، والتي تسعى إلى إبقاء الاقتصاد الفلسطيني في حالة هشاشة دائمة وتبعية بنيوية. ومن هنا، فإن مواجهة هذه التحديات لا تقتصر على المساءلة التقنية أو تحسين النُظم الإدارية، بل تتطلب إعادة نظر جذرية في طبيعة السياسات الاقتصادية المتبعة، وتبني نهج كفاحي متكامل يربط بين أدوات القانون، وحراك الدبلوماسية، ومشروع اقتصادي وطني مقاوم.

 

[1] جسر الملك حسين (سيتم الإشارة إليه بمعبر الكرامة) المنفذ البري الوحيد للفلسطينيين في الضفة الغربية، تم افتتاحه رسميًا في11 ديسمبر 1967 بموجب الأمر العسكري الإسرائيلي رقم 175. ومنذ ذلك الحين، تحوّل إلى أداة للضغط السياسي والاقتصادي، مع استمرار الاقتطاعات الإسرائيلية غير القانونية من رسوم المغادرة، وفرض قيود تعسفية على حركة الفلسطينيين.

[2] وفقاً للبند 14 (ب) من بروتوكول باريس الاقتصادي ورد بأن (مسار المسافرين الخاص بالجمارك: سيدير كل جانب الإجراءات الجمركية لمسافريه، بما في ذلك التفتيش و جباية الضرائب، التفتيش وجباية الضرائب المستحقة على الفلسطينيين المارين عبر المسار الجمركي الخاص بهم، ستكون من مسؤولية موظفي الجمارك التابعين للسلطة الفلسطينية سيكون لموظفي الجمارك الاسرائيليين وجود غير مرعي في مسار الجمارك الفلسطيني، وهم مخولون يطلب إجراء تفتيش للبضائع وجباية الضرائب المستحقة، وفي حالة الاشتباه، سيتم التفتيش من قبل موظفين فلسطينيين في غرفة منفصلة بحضور موظف جمارك إسرائيلي. عند نقاط العبور على نهر الأردن وفي قطاع غزة) ولم يرد أي بند آخر يحدد قيمة ضريبة المغادرة وآليات التحصيل والتقاص.

[3] اللجنة الدولية للصليب الأحمر. (1949). اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب. اعتمدت في 12 آب/أغسطس 1949، ودخلت حيز النفاذ في 21 تشرين الأول/أكتوبر 1950.

[4] اتفاقية جنيف. 1949: المادة 53 تنص على أنه يحظر على الدولة المحتلة تدمير ممتلكات الأفراد أو الدولة أو الجماعات.  كما تنص المادة 55 على أن الدولة المحتلة تتحمل مسؤولية إدارة الموارد الاقتصادية بطريقة تضمن احتياجات السكان المحليين، ولا يجوز لها استغلال هذه الموارد بشكل يضر بالسكان الأصليين أو يحولها لصالحها. وتعتبر المادة 147 الاستيلاء غير القانوني على الممتلكات ونهب الموارد الاقتصادية من الانتهاكات الجسيمة التي تستوجب الملاحقة القانونية.

[5] الأمم المتحدة. (1966). العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة 2200A (د-21) المؤرخ في 16 كانون الأول/ديسمبر 1966، ودخل حيز النفاذ في 3 كانون الثاني/يناير 1976.

[7] قيمة ضريبة المغادرة عند حساب العائدات 178 شيكل.

[8]  وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا). 2025. المالية: الاحتلال يحتجز 7 مليارات شيكل من أموال المقاصة. 20/03/2025.

 

كلمات مفتاحية::