مقترح خارطة طريق للسيادة المالية والاستقرار الاقتصادي (2025–2027)
بوابة اقتصاد فلسطين
في ظل واقع اقتصادي صعب، تشهده السلطة الوطنية الفلسطينية اليوم، لم يعد السؤال هو "ما العمل؟" بل "متى نبدأ؟" والأهم: هل نملك الإرادة للخروج؟
منذ شهور، تتردد عبارات مثل "أزمة مالية خانقة" و"توقف التحويلات" و"مخاطر انهيار وشيك" على ألسنة السياسيين والموظفين والمواطنين على حد سواء. لكننا، كشعب وكمؤسسات، لم نعد نملك ترف الوقت أو رفاهية التأجيل.
السلطة الفلسطينية تمر بأخطر أزمة مالية منذ تأسيسها، وآن الأوان لوضع خطة وطنية واقعية، تقودنا من الأزمة إلى التعافي. نعم، الوضع المالي في غاية الصعوبة، لكن الأزمات ليست نهاية الطريق إنما بدايته شرط أن نوجهها بخطط مدروسة، وحلول قابلة للتنفيذ، لا بالشعارات ولا بالمؤتمرات.
لعل النموذج الكرواتي أقرب إلينا مما نعتقد. بلد عانى من الحروب والانقسام والفقر، لكنه نهض عبر مسار واضح: إصلاح مؤسسات الدولة، محاربة الفساد، دعم الإنتاج، وفتح الباب للاستثمار. فهل يمكننا تكرار التجربة؟ نعم، بل قد ننجح أسرع إذا أردنا ذلك فعلاً.
أولًا: أين تكمن المشكلة؟
1- عجز مالي مزمن: العجز الجاري في الموازنة يتجاوز 1.2 مليار دولار سنويًا وفق أرقام البنك الدولي، ونسبة الدين العام الى الناتج المحلي وصلت الى أكثر من 49% نتيجة الاعتماد على مصدرين هشّين:
• المصدر الأول: المقاصة وهي (الضرائب التي يجبيها الاحتلال على السلع المستوردة لفلسطين وتشمل ضريبة القيمة المضافة (VAT) على السلع الإسرائيلية التي تُشترى من قِبل التجار الفلسطينيين، الجمارك على السلع المستوردة عبر الموانئ الإسرائيلية (مثل ميناء حيفا أو مطار بن غوريون). ضريبة المحروقات. رسوم المعابر) وتشكل نحو 70-65% من إيرادات السلطة الوطنية الفلسطينية بحسب بيانات وزارة المالية الفلسطينية، لكنها تحتجز أو تُخصم من قبل الاحتلال الإسرائيلي، دون سيطرة فلسطينية فعلية. كما هو حاصل حاليًا.
- هل يمكن للسلطة جباية الضرائب مباشرة؟
بحسب "برتوكول باريس الاقتصادي" الموقّع عام 1994 جعل الاحتلال وسيطًا إلزاميًا لتحصيل الجمارك على البضائع المستوردة خاصة من الموانئ. وبالتالي لا يمكن ذلك.
• المصدر الثاني: المساعدات الدولية انخفاض المساعدات الدولية من 1.2 مليار دولار في 2008 إلى أقل من 250 مليون في 2024 و180 مليونًا حتى الان من العام 2025. لاسباب أهمها:
- استمرار الانقسام بين الضفة وغزة منذ 2007 جعل المانحين يشككون في قدرة السلطة على إدارة الأموال بكفاءة.
- تقارير البنك الدولي (2023) تشير إلى أن 35% من المساعدات تُهدر بسبب غياب التنسيق بين الحكومتين في الضفة وغزة.
- تقييم البنك الدولي لفشل 60% من مشاريع البنية التحتية الممولة ما بين (2015-2020).
- تقارير "منظمة الشفافية الدولية" (2024) صنّفت فلسطين في المرتبة 128 من 180 على مؤشر الفساد العالمي.
- تجميد الاتحاد الأوروبي 60 مليون يورو من مساعداته (2022) بسبب عدم توثيق الصرف.
- عقوبات أمريكية متمثلة في قانون "تايلور فورس" (2018) يربط المساعدات بتوقف السلطة عن دعم أسر الأسرى. حجب 250 مليون دولار سنوياً منذ 2021.
- وغيرها من الأسباب الخاصة بغياب الإصلاح الإداري لمؤسسات السلطة، كإنسحاب 20 مانحًا دوليًا في مؤتمر المانحين عام 2023 بسبب غياب الشفافية المالية.
2- ارتفاع فاتورة الرواتب:
- بحسب بيانات البنك الدولي ووزارة المالية الفلسطينية تمثل الرواتب والأجور أكثر من 60% من الإنفاق العام، مقارنة بمتوسط 35% في الدول النامية. أي ما يقارب 16% من الناتج المحلي الإجمالي وهو من اعلى المعدلات عالميًا، حيث لا يتجاوز ال 10% في الدول النامية، مع إضافة ما يصرف في قطاع غزة تصل النسبة الى 17%.
- المؤسسة الأمنية وحدها تستحوذ على ما يزيد عن 27% من هذه الفاتورة، بناء على ما جاء في تقرير "مؤسسة مسواة" (المنشور من قبل الائتلاف من أجل النزاهة أمان)، تشير إلى أن الرواتب الشهرية لطواقم الأجهزة الأمنية تصل إلى 242 مليون شيكل، منها حوالي 63% تُصرف لرتباء وضباط ورموز رفيعة، مما يعزز الترهل الطبقي في الجهاز الأمني.
- بالإضافة إلى جيش من المستشارين في مختلف الوزارات، يتقاضون رواتب تفوق المعدلات الطبيعية، هناك تقديرات تشير إلى تواجد ما بين 400 إلى 700 مستشار حكومي في مؤسسات مختلفة، يتقاضون رواتب تُقدَّر بـ 8–13 مليون دولار سنويًا دون مهام واضحة أو نتائج قابلة للتقييم المؤسسي.
- تُظهِر تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية حالات ازدواجية الرواتب، حيث يتقاضى البعض راتبًا تقاعديًا من جهة وراتبًا رسميًا من جهة أخرى، أو رواتب من جهاز مدني وأمن في آنٍ واحد.
3- تراجع الإنتاج المحلي: من بين أبرز التحديات التي تعيق الانتعاش الاقتصادي في فلسطين، الاعتماد شبه الكامل على الواردات، حتى للأبسط منتجاتنا، مسجّلًا مستويات خطيرة تؤثر على السيادة الاقتصادية للسلطة.
- وفقًا لتقرير UNCTAD وحسابات البنك المركزي الفلسطيني، وصلت الديون التجارية (العجز في الميزان التجاري) إلى حوالي 48% من الناتج المحلي الإجمالي في 2023، وهي من بين الأعلى عالميًا.
- إجمالي الواردات الفلسطينية في 2023 بلغ نحو 8.3 مليار دولار، بينما كانت الصادرات أقل بكثير عند 1.5 مليار دولار، مما أدى إلى عجز في التجارة الخارجية بقيمة 6.8 مليار دولار.
- تبلغ حصة إسرائيل من التجارة الفلسطينية الداخلية والخارجية نحو 72٪ من الواردات و80٪ من الصادرات، ما يعكس اعتمادًا شبه مطلق على الاقتصاد الإسرائيلي لتلبية الاحتياجات المحلية.
- وبحسب UNCTAD، فإن مساهمة القطاعات الإنتاجية (الزراعة والصناعة) انخفضت من نحو 34% من الناتج المحلي عام 2021 إلى 15.8% في 2023، وهذا تراجع كبير في قدرة الاقتصاد الفلسطيني على إنتاج ما يكفي من احتياجاته، خاصة في ظل القيود المفروضة على الحركة، ونقص التكنولوجيا، وغلاء الكلفة الإنتاجية.
• ماذا يعني هذا بالنسبة للاقتصاد الفلسطيني؟
يعني ان 8 دولارات من بين كل 10 دولارات تصرف على الاستهلاك المحلي تُغادر الى خارج أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية، مما يقلص فرص تشغيل الشباب ويضعف البنية الإنتاجية ويزيد من ضعف السيولة داخل السوق.
ثانيًا: مقترحات للحد من الازمة ومحاولة الخروج منها.
1- إصلاح هيكلي لمؤسسات الدولة، والمطلوب هنا ليس المساس بلقمة عيش الموظف، بل إعادة هيكلة عادلة ومبنية على معايير الكفاءة والإنتاجية. من خلال:
- إعادة بناء هرم الرواتب، يجب إنهاء الازدواجية بين رواتب الأجهزة الأمنية والقطاع المدني، وإلغاء الامتيازات العليا غير المبررة، وإعادة توزيع الرواتب بطريقة عادلة.
- تقليص المستشارين والرواتب الخاصة، وفق تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية، هناك المئات ممن يتقاضون رواتب استشارية دون مهام واضحة، بتكلفة سنوية تقارب 100 مليون شيكل.
- إعادة جدولة سلم الرواتب لضمان العدالة، بحيث لا تتجاوز الرواتب العليا سقفًا محددًا، وإلغاء المخصصات غير المبررة.
- دمج بعض المؤسسات والهيئات المتشابهة في الاختصاص: بهدف ترشيد النفقات وتحسين الكفاءة.
- التحول إلى نظام موحد للرواتب، يدمج المؤسسات المتفرعة والهيئات ضمن سلم الرواتب وفق نظام الخدمة المدنية.
- إجراء مسح شامل للوظائف المكررة وغير الضرورية في المؤسسات العامة، وإنهاء العقود غير المنتجة.
- تجميد التوظيف في القطاعات غير الحيوية لمدة 3 سنوات على الأقل.
- تقليص النفقات الأمنية تدريجيًا، وتوجيه هذه الأموال نحو قطاعات التعليم، الصحة، والزراعة.
- اعتماد موازنة أداء (Performance-based budgeting): تربط الصرف بالنتائج وليس بالأقدمية أو النفوذ السياسي.
• إذا ما طُبقت هذه الخطوات بجدية، يمكن خفض فاتورة الرواتب بما يتراوح بين 10% إلى 15% خلال عامين، ما يعني توفير أكثر من 150 مليون دولار سنويًا، يمكن إعادة توجيهها نحو مشاريع بنية تحتية، أو دعم القطاع الخاص، أو تخفيف الديون.
2- تنويع مصادر الإيرادات وتقليل الاعتماد على المقاصة
• إنشاء مراكز جمركية فلسطينية مستقلة في مناطق السلطة، بالتعاون مع أطراف ثالثة كالأردن وتركيا، بحيث يتم فحص البضائع وتقدير الجمارك خارج الموانئ الإسرائيلية (وسبق العمل به مع الأردن).
• التوسع في الاستيراد المباشر عبر ميناء العقبة من الدول العربية أو تركيا بالتنسيق مع شركاء دوليين، وهو ما يُجنّب السلطة الاقتطاعات الإسرائيلية بنسبة 3%، ويوفر إمكانية تخليص البضائع في مراكز جمركية فلسطينية - أردنية مشتركة، هذه الخطوات تتطلب ترتيبات لوجستية ودبلوماسية، لكنها ليست مستحيلة.
• فرض ضريبة دخل تدريجية على الدخول العليا، وتعزيز الجباية من القطاعات غير الرسمية التي تشكل أكثر من 35% من الناتج المحلي.
3- تحفيز الاستثمار والإنتاج
نحتاج إلى اقتصاد منتج، لا إلى اقتصاد يعيش على الإنفاق:
• إعفاء المصانع والمشاريع الصغيرة من الضرائب لمدة 3–5 سنوات بشرط تشغيل ما لا يقل عن 30–50% من الشباب الفلسطيني.
• تشجيع الزراعة والصناعة المحلية لتقليل الاستيراد، الذي بلغت فاتورته السنوية أكثر من 7 مليار دولار، منها ما لا يقل عن 2 مليار يمكن تصنيعه أو إنتاجه محليًا (مثل المنتجات الغذائية، البلاستيكية، والملابس)، عبر تقديم قروض ميسرة وبنية تحتية.
• إطلاق مشاريع طاقة شمسية بالشراكة مع شركات عربية ودولية، لتقليل فاتورة الطاقة التي تتجاوز 700 مليون دولار سنويًا تُدفع لإسرائيل حيث ان فلسطين تستورد أكثر من 90% من احتياجاتها من الكهرباء من شركة الكهرباء الإسرائيلية، هذا الاعتماد يُشكّل خطرًا دائمًا على الأمن الاقتصادي
- اذًا الفرصة في الطاقة الشمسية 200-300 ميغاواط في مشاريع طاقة شمسية على أراضي الدولة والأراضي الخاصة، كفيل بتوفير أكثر من 30% من الاستهلاك السنوي للكهرباء. من خلال دعوة شركات عربية ودولية مثل "مصدر" الإماراتية أو "أكوا باور" السعودية، للدخول في شراكات إنتاج طاقة متجددة، مع ضمانات من الحكومة الفلسطينية.
- تمكين البلديات والمجتمع المحلي من إنتاج الطاقة عبر أسطح المدارس والمباني العامة.
- هذا القطاع وحده يمكن أن يوفر آلاف فرص العمل، ويخفف الضغط المالي عن الخزينة، ويخلق استقلالًا جزئيًا عن الاحتلال.
• إنشاء مناطق صناعية جديدة في جنين وبيت لحم، مع ضمانات تمويلية للمستثمرين من الشتات.
4- شراكة وطنية… لا مركزية في الإنقاذ
إن خطة الإنقاذ ليست مسؤولية الحكومة وحدها، بل مسؤولية وطنية، وأي خطة إنقاذ اقتصادي لن تنجح ما لم يشعر المواطن الفلسطيني بأنه جزء منها، وله دور ومصلحة. الثقة المفقودة بين المواطن والسلطة لا تُستعاد بالكلمات، بل بالأفعال ومن المقترحات لتعزيز الشراكة:
• تأسيس مجلس وطني للإنعاش الاقتصادي يضم ممثلين عن الحكومة، القطاع الخاص، المجتمع المدني، والشتات الفلسطيني، لضمان التنسيق والتنفيذ.
• إصدار تقارير فصلية عن الموازنة العامة بلغة بسيطة، ومواقع إلكترونية تفاعلية توضح كيف تُصرف الأموال، تنشر بشكل دوري لكسب ثقة المواطن والمستثمر.
• إطلاق حملة تشجيع استثمار فلسطيني–فلسطيني (من الشتات والمجتمع المحلي) تحت شعار "استثمر لوطنك" تقدم تسهيلات وإعفاءات واضحة وشفافة.
• تشكيل مجلس وطني للإنعاش الاقتصادي، يضم ممثلين عن القطاع الخاص، المجتمع المدني، الحكومة، وخبراء من الشتات.
• تمكين البلديات والمجالس المحلية من تصميم وتنفيذ مشاريع إنتاجية صغيرة تعود بالنفع المباشر على مجتمعاتها.
ختامًا
الأزمة الاقتصادية الفلسطينية ليست فقط نتيجة الاحتلال، بل نتيجة تراكمات داخلية أيضًا. ومع الإقرار بالتحديات السياسية فإن الاقتصاد لا ينتظر. المواطن يحتاج حلولًا، لا تبريرات.
خارطة الطريق التي طرحتها هنا ليست شاملة لكل التفاصيل، لكنها بداية واضحة نحو استقلال اقتصادي تدريجي. والقرار اليوم في يد القيادة، إما أن تبدأ رحلة الإصلاح الحقيقية… أو نبقى ننتظر المعونة في ممرات الانتظار.
والانتظار خيار قاتل. والمساعدات لن تدوم، والمقاصة ستبقى سلاحًا سياسيًا. ما نحتاجه هو اقتصاد منتج، عادل، ومستقل، يبدأ من إصلاح ذاتي جريء، يتخلى عن الامتيازات، ويعترف بالأخطاء، وينظر للمستقبل بشجاعة.