الرئيسية » آخر الأخبار » في دائرة الضوء »
 
14 تشرين الأول 2025

قراءة أولية في مستقبل اقتصاد الضفة الغربية بعد الصفقة

حنين غالب- بوابة اقتصاد فلسطين

مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس حيّز التنفيذ، في صفقة رعَتها الإدارة الأميركية، تقف الضفة الغربية أمام مشهد اقتصادي ضبابي، تتداخل فيه المؤشرات الأولية مع حالة من الترقّب الحذر. وحتى الآن، لا يمكن الحديث عن تحولات واضحة في قطاعات العمالة أو التجارة الخارجية أو التصاريح المرتبطة بالدخول والعمل، بل ما يتوفر هو مجموعة من الإشارات المتفرقة التي تسمح بقراءة أولية لمآلات الاقتصاد الفلسطيني في حال استقرت الأوضاع الأمنية والسياسية.

تراجعت القدرة التشغيلية في الضفة الغربية بشكل حاد خلال فترة الحرب، ليس فقط نتيجة توقف تصاريح العمل داخل الخط الأخضر، بل بفعل انهيار متسلسل في الدورة الاقتصادية الداخلية. فمع انخفاض الاستهلاك المحلي، تراجع الإنتاج، وتقلّصت الفرص الاقتصادية، ما أدى إلى انخفاض الدخل وتراجع الطلب، ثم تقلص العرض. ومع ذلك بدأت المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بتقليص عدد الموظفين، مما عمّق من أزمة التشغيل وأعاد إنتاج الحلقة ذاتها بشكل أكثر حدة. هذا الانكماش لم يقتصر على العمالة المرتبطة بإسرائيل، بل شمل أصحاب المصالح المحلية الذين وجدوا أنفسهم أمام بيئة تشغيلية غير مستقرة، وطلب استهلاكي هش، وتكاليف تشغيلية متزايدة.

يقول محمود عودة، تاجر مواد غذائية، إنه لا يتوقع عودة الحركة التجارية إلى ما كانت عليه، خاصة عبر البحر الأحمر، موضحًا أن “الاتفاق لا يتضمن أصلًا أي بنود تتعلق بالسياسة الخارجية أو التوتر العسكري بين إسرائيل واليمن، وهذا يعني أن خطوط الشحن ستبقى متأثرة، والتكلفة ستبقى مرتفعة”. ويضيف أن العلاقات المتوترة بين إسرائيل وتركيا تُلقي بظلالها على سلاسل التوريد، وأن “الخسائر تبقى دون أي تعويض أو حماية من أي جهة”.

في الوقت ذاته، تأثرت حركة البضائع والاستيراد بعوامل تتجاوز المعابر الإسرائيلية. فالأحداث الأمنية في البحر الأحمر، وخاصة الهجمات التي طالت السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل، دفعت العديد من شركات الشحن إلى تغيير مساراتها لتجنب المرور عبر مضيق باب المندب. هذا التحول رفع تكاليف النقل البحري بنسبة تجاوزت 40% في بعض الحالات، وأدى إلى تأخير وصول البضائع وتقليص حجم الشحنات وارتفاع أسعار السلع المستوردة. أما البضائع الفلسطينية، فقد واجهت تنكيلًا ممنهجًا في الموانئ الإسرائيلية، حيث تُجبر الحاويات على الانتظار لفترات طويلة، ما يحمّل التجار تكاليف تخزين مرتفعة تُعرف بـ“أجرة الأرضية”، وهي رسوم تُفرض على كل يوم تأخير، وتُعد من الأعلى في المنطقة. وبهذا ترتفع تكلفة السلعة النهائية وتُضعف القدرة التنافسية للمنتج الفلسطيني. ويتوقع بعض التجار أن يبقى الوضع على ما هو عليه بعد الصفقة، خاصة أن إسرائيل مستفيدة جدًا من مثل هذه الإجراءات، إذ تجني غرامات عالية، ولهذا السبب يُعد الميناء أحد أهم مقومات الاقتصاد الإسرائيلي.

شهدت العلاقات الاقتصادية بين الأردن وفلسطين خلال فترة الحرب حالة من الجمود شبه الكامل، إذ تعطلت حركة البضائع بفعل القيود الأمنية والإغلاقات المتكررة، ما أدى إلى تراجع حاد في حجم التبادل التجاري. أما بعد الصفقة التي يُفترض أنها أنهت العمليات العسكرية، فتتجه التوقعات نحو انتعاش تدريجي في الواردات الفلسطينية من الأردن، خاصة في قطاعي الغذاء والدواء، في حين تبقى الصادرات الفلسطينية محدودة بفعل ضعف البنية الإنتاجية واستمرار القيود على المعابر. ومع ذلك، فإن أي تخفيف محتمل للقيود أو دعم دولي موجه قد يفتح المجال أمام شراكات اقتصادية أوسع ويعيد تشكيل المعادلة التجارية بين البلدين على أسس أكثر تكاملًا واستقرارًا.

أما تصاريح العمل فما زالت محكومة بحالة من عدم اليقين، إذ لم تُعلن الجهات الإسرائيلية حتى الآن عن أي آلية واضحة لإعادة تفعيل التصاريح، سواء داخل الخط الأخضر أو في المستوطنات الصناعية. وبينما تتداول بعض التقديرات غير المؤكدة حول إمكانية إعادة تشغيل عشرات الآلاف من التصاريح، فإن الواقع يشير إلى غياب أي ضمانات واستمرار حالة التجميد، ما يُبقي آلاف الأسر دون مصدر دخل ثابت. تقول ميس الحامد، عاملة تنظيف في أحد المستشفيات الإسرائيلية، إنها “منذ بداية الحرب بلا عمل مستقر، ولم يتم تعويضي بأي شكل”، مضيفة أنها لا تتوقع عودة التصاريح قريبًا، “لأن الوضع لا يزال متوترًا، والمعابر كانت دائمًا مذلة ومخيفة، والآن صارت أكثر رعبًا”. ميس التي وجدت عملًا مؤقتًا داخل الضفة خلال فترة الحرب تؤكد أنها لن تعود للعمل في الداخل حتى لو أُعيدت التصاريح، “لأني لا أشعر بأي أمان، ولا أريد أن أكون كبش فداء مرة أخرى”.

في المقابل، يُبدي بعض العمال تفاؤلًا حذرًا. يقول أشرف مغربي، مزارع فلسطيني كان يعمل في أراضٍ داخل الخط الأخضر، إنه يثق بأن “العمل سيعود إلى ما كان عليه قبل الحرب، بل وأفضل”، موضحًا أن إسرائيل “بحاجة ماسة للعمال الفلسطينيين، خاصة في الزراعة والإنشاءات، ولن تجد بديلًا مماثلًا”، مشيرًا إلى أن “العمال الذين جلبتهم إسرائيل من الصين والهند خلال الحرب لا يمكنهم تعويض الجودة التي يقدمها العامل الفلسطيني”، واصفًا هذا التوجه بأنه “حل عشوائي لن يستمر”.

ولا يمكن قراءة المشهد الاقتصادي بمعزل عن الواقع السياسي والأمني في الضفة الغربية، حيث تستمر هجمات المستوطنين بشكل شبه يومي، وتُسجّل حالات طرد قسري من مناطق سكنية فلسطينية، ومصادرة أراضٍ زراعية لصالح بناء وحدات استيطانية جديدة. هذا التوسع الاستيطاني لا يُهدد فقط الأمن الشخصي، بل يُعيد تشكيل الجغرافيا الاقتصادية ويُضعف قدرة الفلسطينيين على الوصول إلى أراضيهم أو التنقل بين المدن، مما يُعيق التشغيل ويُقلّص فرص الاستثمار. ففي استطلاع رأي ميداني أُجري مؤخرًا، أكد غالبية المشاركين أن الخوف من عبور شوارع تُسيطر عليها المستوطنات يمنعهم من الوصول إلى أماكن عملهم، خاصة أولئك الذين يعملون بين رام الله ونابلس أو يضطرون لاستخدام طرق التفافية تمر بمحاذاة المستوطنات.

لكن في حال تحقق استقرار أمني نسبي، وإعادة فتح المعابر التجارية، وعودة تدريجية لتصاريح العمل، يُتوقع أن تشهد بعض القطاعات الاقتصادية في الضفة الغربية انتعاشًا ملموسًا، خصوصًا تلك التي تمتلك مرونة تشغيلية وقدرة على التوسع السريع. قطاع الإنشاءات، الذي تضرر بشدة خلال الحرب، يُعد من أبرز المرشحين للانتعاش، مدفوعًا بمشاريع إعادة الإعمار في غزة والطلب الداخلي المتزايد على البنية التحتية السكنية والخدمية، خاصة في المناطق التي شهدت توسعًا سكانيًا بفعل النزوح المؤقت. كما يُتوقع أن يستعيد قطاع الزراعة زخمه، لا سيما إذا تم تخفيف القيود على التصدير نحو الأردن والخليج، إذ تُظهر بيانات وزارة الزراعة الفلسطينية أن أكثر من 60% من المزارع في الضفة قادرة على مضاعفة إنتاجها خلال ستة أشهر إذا توفرت شروط النقل والتسويق.

ويُعد قطاع الخدمات الرقمية والتعليم من القطاعات الواعدة أيضًا، خاصة مع التحول نحو الاقتصاد الرقمي ووجود بنية تحتية جيدة نسبيًا في المدن الكبرى، مما يُتيح فرصًا للتوسع في مجالات التدريب، البرمجة، والتجارة الإلكترونية. أما الصناعات الصغيرة والمتوسطة فقد تستفيد من إعادة هيكلة سلاسل التوريد وتزايد الطلب المحلي على المنتجات البديلة، خصوصًا في مجالات الأغذية والمنسوجات والمنتجات الحرفية، مما يعزز قدرتها على توليد عوائد مستقرة ويُعيد تموضعها في السوقين الداخلي والإقليمي.

في ظل هذا الواقع، يبقى المشهد الاقتصادي في الضفة الغربية رهينًا لمعادلة معقدة تتداخل فيها السياسة والأمن مع مؤشرات السوق. وبين من يرى في وقف إطلاق النار فرصة لإعادة تنشيط الاقتصاد، ومن يُحذّر من إعادة إنتاج التبعية بشكل أكثر تعقيدًا، يبقى السؤال مفتوحًا حول قدرة الفلسطينيين على تحويل هذه اللحظة إلى نقطة انطلاق نحو اقتصاد أكثر استقلالية وعدالة.

 

مواضيع ذات صلة