الرئيسية » أقلام اقتصادية » آخر الأخبار » الاخبار الرئيسية »
 
12 تشرين الأول 2025

غزة تنهض من تحت الركام.. معركة الإعمار تبدأ بكرامة الإنسان

بقلم: عزام الشوا
اقتصادي فلسطيني

لم تكن غزة يومًا ساحة حرب عابرة، ولا سطرًا هامشيًا في كتاب التاريخ، بل كانت وستظل روح فلسطين النابضة وضميرها المقاوم. غير أنّ ما شهدته في الشهور الماضية تجاوز كل ما عرفه العالم من قبل. لقد كان العدوان الغاشم على غزة الأكثر دموية في تاريخ فلسطين والعالم الحديث؛ عدوان لم يوفّر حجرًا ولا بشرًا، لم يميّز بين طفل وشيخ، بين امرأة ورجل، بين بيت ومدرسة ومستشفى ومسجد وكنيسة. كان استهدافًا شاملًا للإنسان الفلسطيني، لهويته وكرامته ووجوده.

لقد فقدنا في هذه المأساة عشرات الآلاف من الأطفال الذين لم يعرفوا من الحياة سوى الخوف والجوع وصوت الانفجارات. وفقدنا نساءً كنّ أعمدة البيوت، وشيوخًا حملوا الذاكرة والهوية. هناك من فقد أطرافه ولن يعود إلى المشي كما كان، ومن فقد بصره لكنه لم يفقد بصيرته وإيمانه بوطنه. وهناك من فقد عائلته كاملة وبقي وحيدًا في عالمٍ قاسٍ، ينتظر يدًا حانية تعيد له الأمان والانتماء.

لكن وسط هذا الخراب الشامل، ولدت حقيقة لا يمكن طمسها: هذا الشعب لا يُكسر. غزة التي واجهت الجوع والتدمير والحصار والقتل، وقفت شامخةً في وجه آلة الحرب، وما زالت واقفة اليوم في وجه اليأس. فالمعركة لم تنتهِ بانتهاء القصف؛ بل بدأت معركة جديدة لا تقل أهمية ولا شراسة: معركة إعادة الإعمار.

الإعمار ليس مجرد إسمنت وحديد، ولا هو فقط إعادة ما كان. إنه مشروع وطني شامل لإعادة بناء الحياة الفلسطينية من جديد على أسس أكثر صلابة وعدالة وكرامة. الإعمار هو بناء الإنسان قبل البنيان، وهو ترميم الجراح الاجتماعية والنفسية قبل الجدران. إنه إحياء للأمل في نفوس الأطفال الذين رأوا الموت بأعينهم، وللنساء اللواتي فقدن أبناءهن وأزواجهن، وللشيوخ الذين يرون أعمارهم تنقضي وهم يحلمون بوطن حر.

وهنا تبرز مسؤوليتنا الجماعية كفلسطينيين وعرب وأحرار العالم أن نجعل من الإعمار مشروع سيادة لا صدقة، وخطوة نحو بناء الدولة لا مجرد معالجة للدمار. أن نعيد إلى غزة ما هو أكثر من المباني: أن نعيد إليها مكانتها ودورها ومستقبلها.

ومن بين جراح غزة العميقة، جرح الأيتام هو الأشد إيلامًا. عشرات الآلاف من الأطفال وجدوا أنفسهم بلا آباء وأمهات، بلا سند ولا مأوى، لكنهم ليسوا بلا أمل. هؤلاء الأطفال ليسوا ضحايا فقط، بل هم رأس مالنا البشري الأكبر في مستقبل غزة وفلسطين. يجب أن يكونوا في قلب عملية الإعمار، لا على هامشها. فبناء مدارسهم، وتأمين رعايتهم الصحية والنفسية، وتوفير بيئة آمنة لهم، ليست أعمالًا خيرية بل واجب وطني وأخلاقي وإنساني.

إنّ معركة الإعمار الحقيقية تبدأ من هؤلاء الأطفال، لأنهم سيكونون عمّار المستقبل وحمَلة رسالته. من دونهم، لن يكون للإعمار معنى ولا للوطن مستقبل.

ولكي تنجح هذه المعركة الجديدة، يجب أن تقوم على ثلاث ركائز:

 1. قيادة وطنية فلسطينية تضع خطة استراتيجية للإعمار تنطلق من أولويات المجتمع واحتياجاته الحقيقية، وتربط الإعمار ببناء مؤسسات الدولة واستعادة السيادة.

 2. شراكة عربية ودولية مسؤولة لا تكتفي بتقديم المساعدات الطارئة، بل تتحوّل إلى استثمار حقيقي في مستقبل غزة وفلسطين.

 3. مشاركة فاعلة للقطاع الخاص الفلسطيني ليكون شريكًا أساسيًا في بناء الاقتصاد الوطني المقاوم، وخلق فرص العمل، وتحريك عجلة الحياة.

وفي خضم هذه النقاشات، انشغل العالم كثيرًا بما يُسمّى بـ"اليوم التالي"، وتسابقت العواصم والمنابر في الحديث عن من سيحكم غزة. لكننا نقول بوضوح: السؤال الأهم ليس من سيحكم، بل من يملك القدرة والإرادة على إعادة البناء والتعمير، وعلى تحويل الألم إلى مشروع حياة ومستقبل

لا يمكن الحديث عن معركة الإعمار دون التوقف بإجلال أمام الجهود السياسية الكبيرة التي مهّدت لهذا التحوّل التاريخي.

إنّ تبنّي الرئيس دونالد ترمب قرار إيقاف العدوان الغاشم على غزة يمثّل خطوة مهمّة يجب البناء عليها، كما لا بدّ من الإشادة بالدور المحوري الذي قامت به جمهورية مصر العربية، قيادةً ورئاسةً وفريقًا للمفاوضات، وبالجهود الكبيرة التي بذلتها دولة قطر أميرًا وفريقًا مفاوضًا، وتركيا حكومةً وفريقًا سياسيًا نشطًا، إضافةً إلى عدد من الدول العربية والإسلامية والدولية التي دعمت هذا المسار الإنساني والسياسي بكل ثقلها.

ونأمل أن لا تكون هذه المحطة نهاية المطاف، بل أن تُتوَّج بـ مصالحة وطنية فلسطينية حقيقية على أرض شرم الشيخ، في ظل هذا الحضور العربي والإسلامي والأوروبي والأمريكي الواسع، وبمشاركة زعماء عدة دول وعلى رأسهم الرئيس ترمب، إيذانًا ببدء صفحة جديدة ندخل فيها إلى جوهر قضيتنا، بناء دولتنا الفلسطينية المستقلة على أرضنا، بكرامةٍ وسيادةٍ ووحدةٍ وطني.

الإعمار ليس نهاية الطريق، بل بدايته. إنه ليس فقط ترميمًا لما تهدّم، بل إعلانًا بأننا ما زلنا هنا، وأننا سنبني من جديد بأيدينا، وسنحوّل الألم إلى أمل، والركام إلى مستقبل. كل مدرسة تُبنى هي انتصار على الجهل والظلام. كل بيت يُعاد تشييده هو إعلان بأن العائلة الفلسطينية لا تموت. كل طفل يتعلّم ويُشفى ويبتسم هو هزيمة جديدة للعدوان.

غزة لا تطلب الشفقة، بل الشراكة. لا تنتظر العطف، بل الاعتراف بحقها في الحياة والحرية. ومن تحت الركام، ستنهض أقوى وأجمل، لأن شعبها علّم العالم أن الكرامة لا تُقصف، وأن الإرادة لا تُدمَّر.

لقد انتهى العدوان الغاشم الأكثر دموية في تاريخ فلسطين والعالم الحديث، وبدأت معركة أشد صعوبة وأعمق أثرًا: معركة الإعمار بكرامة الإنسان.

ومن رحم الدم والدمار، يولد المستقبل.

ومن تحت الركام، ستكتب غزة كما كتبت دائمًا قصتها الخاصة: قصة مدينة لا تموت، وشعب لا يُهزم، وأمة تؤمن أن الغد سيكون أفضل، مهما طال الليل واشتدّ الألم.

وإذا كانت معركة الإعمار هي معركة البناء المادي والنفسي والاقتصادي، فإن معركة لمّ الشمل الفلسطيني وتوحيد الصف الوطني هي مكوّنها الأساسي وروحها الحقيقية. فلا إعمار بلا وحدة، ولا مستقبل بلا مصالحة تجمع أبناء الوطن الواحد تحت راية المشروع الوطني الفلسطيني. إن إعادة إعمار الحجر يجب أن تترافق مع إعادة إعمار البيت الفلسطيني الداخلي، وترميم ما تصدّع في جسدنا الوطني، حتى نكون جميعًا شركاء في بناء الدولة الفلسطينية المستقلة، الحرة، والسيّدة على أرضها.

هل تتفق مع ما جاء في هذا المقال؟