هل يشهد الذهب انهيارًا مدويًا على غرار 1980 و2011؟

بوابة اقتصاد فلسطين
في صيف عام 1896، تناقلت أرجاء كندا خبر اكتشاف كميات هائلة من الذهب في وادٍ متجمّد قرب نهر كلوندايك. لم يطل الأمر حتى تحوّل الخبر إلى عاصفة بشرية، حين هجر أكثر من 100 ألف رجل منازلهم وتجاراتهم، قاصدين الشمال في رحلة قاسية بين جبالٍ جليدية وممراتٍ قاتلة، لم يصل منها سوى الثلث. أثبتت تلك الحمى أن الذهب ليس دائمًا في يد من ينقب عنه، بل في يد من يحدد قواعد اللعبة الاقتصادية حوله، وأن الخوف من فوات الفرصة قد يفوق قوة اليقين ذاته. واليوم، يبدو أن العالم يعيش حمى جديدة، فهل تنتهي كما انتهت من قبل؟
الحمى تتجدد
في شوارع هانوي، تصطف الطوابير أمام محلات الذهب منذ الفجر، فيما يحمل الناس مدخراتهم لتحويلها إلى سبائك، حتى باتت العودة خالية الوفاض أمرًا متكررًا. وفي سيدني، امتدت الصفوف في الشوارع المالية كما لو كانت طوابير انتظار لإصدار جديد من "آيفون"، إذ ينتظر البعض ساعات لشراء قطعة صغيرة من المعدن النفيس.
عالميًا، ارتفعت أسعار الذهب بأكثر من 50% هذا العام، وقفزت أسهم شركات التعدين بأكثر من 100%. أما في الولايات المتحدة، فقد زاد الطلب على المعدن بنسبة 60% خلال الربع الثالث، مدفوعًا بالإقبال الكبير من الصناديق المتداولة، وفق بيانات مجلس الذهب العالمي. ويُظهر المشهد أن "جنون الذهب" لم يعد حكرًا على المناجم البعيدة، بل أصبح سلوكًا اقتصاديًا عالميًا، وسط تزايد القلق من هشاشة النظام المالي العالمي.
تشير بيانات مجلس الذهب العالمي إلى أن الطلب الاستثماري يشكل نحو 40% من الطلب الإجمالي، مقابل 32% للمجوهرات و17% للبنوك المركزية، التي تواصل شراء المعدن رغم تراجع الوتيرة عن مستويات 2022 القياسية. ومن حيث القيمة، قفز الطلب العالمي بنسبة 41% منذ بداية العام، رغم أن حجمه لم يرتفع سوى 1%.
التاريخ يحذر: النهاية مؤلمة
شهدت الأسواق فصولًا مشابهة من قبل. ففي الفترة بين 1971 و1980، ارتفع الذهب من 35 دولارًا إلى 850 دولارًا للأوقية، أي بنسبة تجاوزت 2300%، مدفوعًا بتضخم هائل وصدمات نفطية وتوترات الحرب الباردة. لكن بعد أن رفع رئيس الاحتياطي الفيدرالي آنذاك بول فولكر أسعار الفائدة لكبح التضخم (من 10% إلى 19%)، انهار المعدن الأصفر إلى 300 دولار منتصف الثمانينيات.
ثم شهدت الأسواق صعودًا جديدًا بدأ في نهاية التسعينيات، أوصل الذهب إلى ذروته في 2011 عند 1920 دولارًا للأوقية بزيادة 660%، مدفوعًا بالأزمات المالية العالمية، وانهيار فقاعة الإنترنت، والسياسات النقدية التيسيرية. إلا أن الأسعار تراجعت لاحقًا بنحو 45% حتى نهاية 2015، مع ارتفاع الدولار وتشديد السياسة النقدية الأمريكية عقب ما عُرف بـ"نوبة الهلع" عام 2013.
هل يتكرر السيناريو المؤلم؟
كلا الانهيارين، في 1980 و2011، أعقبهما تشديد في السياسة النقدية بعد فترات من وفرة السيولة. لكن المشهد الحالي يختلف في عناصره الأساسية. فالبنوك المركزية أصبحت لاعبًا محوريًا في الطلب على الذهب، إذ ارتفعت مشترياتها السنوية من 463 طنًا عام 2021 إلى 1082 طنًا في 2022، ثم استقرت فوق الألف طن في 2023 و2024. وبإجمالي تراكمي يناهز 3900 طن منذ 2020، تعد هذه الموجة غير مسبوقة في التاريخ الحديث.
تتنوع دوافع هذه المشتريات بين التحوط من التضخم وتجنّب المخاطر الجيوسياسية، لكن هناك أيضًا تحول إستراتيجي أعمق: رغبة متزايدة في تقليل الاعتماد على الدولار، الذي استخدمته واشنطن كسلاح اقتصادي لمعاقبة خصومها. فقد خفضت الصين حيازتها من سندات الخزانة الأمريكية إلى 730 مليار دولار بحلول يوليو 2025، بعد أن كانت 1.32 تريليون دولار في 2013، فيما ضاعفت احتياطاتها من الذهب إلى 2303 أطنان.
أما روسيا، فقد زادت مخزونها من 1100 طن في 2014 إلى أكثر من 2300 طن حاليًا. وعندما جُمِّدت أصولها الأجنبية عام 2022 بعد غزو أوكرانيا، لجأت إلى احتياطيات الذهب داخل البلاد لتمويل العجز، ما عزز قناعة العديد من الدول بأهمية الذهب كملاذ سيادي مستقل.
إلى أين يتجه الذهب؟
على الرغم من الارتفاعات الأخيرة، تبقى أسعار الفائدة الحقيقية في الولايات المتحدة أقل من مستوياتها في الثمانينيات، كما أن السياسة النقدية العالمية تميل نحو التيسير لا التشديد. ومع تعدد مراكز القوة الجيوسياسية، لم يعد الطلب على الذهب يأتي من مصدر واحد، بل من دولٍ متنافسة ترى فيه أداة توازن واستقرار في عالم مضطرب.
يرى المحللون أن استمرار مشتريات البنوك المركزية إلى جانب احتمالات خفض الفائدة الأمريكية قد يدفع بأسعار الذهب إلى مستوى 5000 دولار للأوقية خلال العام المقبل، أي بزيادة 20% عن المستويات الحالية. ومع ذلك، لا يُستبعد حدوث "تصحيحات صحية" مؤقتة بنسبة 10 إلى 20%، لكنها على الأرجح لن ترقى إلى الانهيارات التاريخية السابقة التي وصلت إلى 60%.
سبائك الدول لا سبائك الحشود
بعد أكثر من قرن وربع على حمى كلوندايك، لم تعد الحشود تتجه إلى الجبال بحثًا عن المعدن الأصفر، بل أصبحت الدول نفسها هي من تكدّسه في خزائنها، تحسبًا لاضطرابات مالية ونقدية قد تعيد تشكيل النظام العالمي. العالم يعود تدريجيًا إلى "عملته الأصلية"، والذهب يعود إلى مركز اللعبة، بين الخوف من المجهول ورغبة لا تنطفئ في النجاة من أزمات تتوالى بلا نهاية.
أرقام