استملاك جميع أراضي غزة واعتبارها أراضي دولة: هل نجرؤ على حل جذري لإعادة الإعمار؟

بوابة اقتصاد فلسطين
في لحظة تاريخية قاسية كالتي تعيشها غزة، تبدو كل الحلول التقليدية قاصرة عن لملمة الخراب الهائل الذي خلّفته الحرب. البيوت سُوّيت بالأرض، الأحياء القديمة اختفت، والسجلات العقارية تآكلت أو ضاعت، في منطقة يعيش أكثر من ثلثي سكانها لاجئين. أمام هذا الواقع، تتقدم فكرة غير مألوفة لكنها تستحق النقاش: استملاك لأراضي غزة بهدف إعادة تنظيم الفضاء العمراني، وتسريع عملية إعادة الإعمار، وتحقيق عدالة مكانية طال غيابها، مع تعويض للملاك وتسجيل جميع غزة أراضي دولة.
هذه الفكرة ليست دعوة إلى مصادرة الملكية الخاصة، ولا محاولة لمحو حقوق المواطنين، فوفق المقترح تستملك الدولة الأراضي، تعيد تنظيمها وتخطيطها، ثم تعيد الحقوق المالية أو البديلة لأصحابها، بحيث لا يُظلم مالكٌ ولا يتعطل مشروع عام.
لماذا نحتاج إلى هذا الخيار الآن؟
يعتمد أي مشروع إعمار ناجح على ثلاث ركائز: الأرض، والوقت، والوضوح القانوني. والثلاثة مفقودة أو مضطربة في غزة اليوم.
إعادة فرز الملكيات وإثباتها في الظروف الحالية قد يستغرق سنوات طويلة، وهو زمن لا يملكه النازحون ولا الاقتصاد ولا حتى بنية الدولة الفلسطينية تحت الاحتلال. آلاف العائلات لا تعرف حدود أراضيها بدقة بعدما تغيّر شكل الحارات والطرق، والخرائط لم تعد تعكس الواقع. وإذا بقيت عملية الإعمار مرهونة بالمنازعات الفردية على كل قطعة أرض، فستستمر الفوضى العمرانية وتغيب العدالة المكانية.
هنا يبدأ دور الاستملاك للمنفعة العامة: توحيد الأراضي في يد جهة عامة، ثم إعادة توزيع استخداماتها وفق مخطط عمراني شامل، مع تعويض الحقوق لأصحابها على شكل تعويضات..
ماذا تكسب غزة من هذا النموذج؟
الفكرة تحمل فوائد كبيرة يمكن تلخيصها في أربعة مسارات:
بدل انتظار سنوات لتسوية آلاف النزاعات العقارية، تستطيع الدولة أن تبدأ فورًا بتخطيط الطرق الرئيسية، والمناطق السكنية، وشبكات المياه والكهرباء.
في مساحة مكتظة مثل غزة، يصعب بناء مدينة صحية من دون إعادة توزيع الاستخدامات: توسيع الشوارع، زيادة المساحات الخضراء، إنشاء طرق طوارئ، إضافة مدارس ومستشفيات.
الاستهلاك العام يتيح ذلك من دون أن تتحكم المصالح الفردية في شكل المدينة.
غزة لا تحتمل مزيدًا من البناء غير المنظم أو التمدد العشوائي. الفكرة تعيد ضبط قواعد البناء قبل أن تعود الفوضى من جديد.
هل يشبه هذا “تأميم الأراضي” في عهد عبد الناصر؟
ثمة شبه في الفلسفة العامة، لا في الأهداف.
تأميم عبد الناصر كان مشروعًا اقتصاديًا–اجتماعيًا يواجه تركز الثروة الزراعية، ويعيد توزيعها على الفلاحين. أما في غزة، فالمسألة ليست صراعًا بين مالك وغفير، بل صراع بين الدمار الشامل وحق الناس في مدينة قابلة للحياة.
كلا النموذجين استخدم الملكية العامة كأداة لتصحيح خلل تاريخي، لكن غزة تواجه خللًا من طبيعة مختلفة: خراب عمراني كامل، غياب سجلات، وانهيار البيئة القانونية.
بمعنى أدق: نحن لا نعيد توزيع الثروة، بل نعيد تأسيس المكان نفسه.
نماذج عالمية يمكن الاسترشاد بها
هذه الفكرة ليست غريبة عالميًا. دول كثيرة لجأت إلى أنظمة مشابهة بعد كوارث أو حروب:
• البلقان بعد الحرب: استخدمت برامج "إعادة تخصيص الأراضي" لإحياء المدن التي دُمّرت بالكامل.
• اليابان بعد زلزال كوبي 1995: أُعيد تخطيط مناطق واسعة عبر استملاك سمح بفتح شوارع جديدة وإعادة تنظيم الحياة العمرانية خلال وقت قصير.
• تركيا بعد زلزال 1999: قامت الحكومة باستملاك مساحات واسعة لإعادة الإعمار وفق معايير أمان عمراني جديدة.
القاسم المشترك في كل هذه التجارب هو أنّ الملكية الفردية أُعيدت لاحقًا لأصحابها، لكن بشكل عادل ووفق نظام جديد منضبط.
ما المخاوف والسلبيات المحتملة؟
لا توجد فكرة كبيرة بلا ثمن. أبرز التحديات:
• هواجس الناس من فقدان ملكياتهم، وهو قلق مفهوم، ويمكن تجاوزه عبر تشريعات واضحة وتعويضات عادلة.
• خطر التسييس، إذا حاولت أي جهة استغلال الاستملاك للسيطرة على مناطق دون أخرى.
• البيروقراطية، فنجاح الفكرة يحتاج إلى مؤسسة مستقلة مهنية لا تخضع للصراع السياسي.
لكن كل هذه المخاطر قابلة للإدارة إذا وُضعت قواعد صارمة للشفافية، وربط التعويضات بتقييمات مستقلة، ووُضعت الرقابة في يد جهة وطنية توافقية.
فكرة جذرية… لكنها ليست خيالية
غزة لا تحتاج فقط إلى بيوت جديدة، بل إلى مدن جديدة بمعنى التخطيط العادل والحديث.
ومهما بدت فكرة الاستملاك العام جريئة أو صادمة، فهي قد تكون الطريق الوحيد لتسريع الإعمار، وضمان العدالة، ومنع الانزلاق إلى سنوات من الفوضى العمرانية.
الأفكار الكبرى تولد عادة من رحم الكوارث الكبرى.
وغزة- بحجم الفاجعة التي عاشتها- تستحق مشروعًا عمرانيًا لا يقل جرأة عن حجم الألم.
إذا أردنا مستقبلًا مختلفًا، فلا بد من أن نفكر بطريقة مختلفة.
قد يطرح القارئ سؤالًا طبيعيًا: من هي الجهة التي ستستملك الأراضي وتديرها وتُعوض أصحابها؟ هل لدينا أصلًا دولة مكتملة تستطيع القيام بهذا الدور؟
السؤال مشروع، والإجابة ليست بسيطة.
الواقع الفلسطيني لا يشبه نموذج دولة ذات سيادة كاملة. هناك سلطة تمارس بعض وظائف الدولة، وهناك مؤسسات، وقضاء، وسجلات، لكن السيادة منقوصة بفعل الاحتلال، والانقسام السياسي يجعل الولاية القانونية منقسمة بين الضفة وغزة. ومع ذلك، غياب “الدولة الكاملة” لا يعني غياب القدرة على الفعل.
التاريخ مليء بتجارب لسلطات غير مكتملة نفّذت مشاريع استملاك واسعة بعد حروب أو كوارث - مثل بيروت بعد الحرب الأهلية، والبوسنة بعد دايتون، وكوسوفو تحت الإشراف الدولي. العبرة ليست بوجود دولة مكتملة السيادة، بل بوجود إطار قانوني-إداري شرعي يستطيع إنجاز المهمة.
وفي الحالة الفلسطينية، يمكن لأي مشروع استملاك أو إعادة إعمار أن يُدار عبر:
سلطة أراضي فلسطينية، إشراف قضائي توافقي، ورقابة مالية دولية، مع ضمان تعويض عادل لأصحاب الحقوق، سواء نقدًا، أو عبر أراضٍ بديلة، أو أسهم في مشروعات إسكانية.
بمعنى آخر:
نحن لا نراهن على قوة الدولة الحالية، بل على بناء نموذج إداري مرحلي قادر على تنظيم الفوضى العمرانية قبل أن تتشكل الدولة نفسها بشكل كامل.