لماذا نزداد فقراً؟ كتاب جديد يرصد اختلالات الاقتصاد العالمي

بوابة اقتصاد فلسطين
في عالمٍ يموج بالاضطراب وتتشعّب فيه الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون، يطلّ سؤال مُلحّ بات يتردّد في العواصم ومراكز الأبحاث وغرف المعيشة على حدّ سواء: هل يمكن تنظيم الاقتصاد العالمي بطريقة أكثر عدالة؟
هذا السؤال يقف في صميم كتاب "لماذا نصبح أكثر فقراً" لكاهال موران، وهو عملٌ ينخرط في مواجهة فكرية مباشرة مع البنية الاقتصادية السائدة، كاشفًا بنيتها المختلّة من جذورها؛ من وهم الجدارة الفردية، إلى سياسات التضخم المضلِّلة، وصولًا إلى هشاشة سلاسل الإمداد التي تهدّد استقرار الدول والمجتمعات.
وفي لحظة تاريخية تتلاحق فيها الأزمات ـ من الحروب إلى التضخم، ومن تآكل الطبقة الوسطى إلى انهيار منظومات العمل ـ يقدّم موران قراءة جريئة تُفكّك أسطورة النمو الاقتصادي المتواصل، وتعيد فتح النقاش حول الخيارات التي وضعت ملايين البشر على هوامش الاقتصاد العالمي.
يُصنَّف كتاب "لماذا نصبح أكثر فقراً: دليل واقعي للاقتصاد وكيف نصلحه"ضمن تيار الاقتصاد غير التقليدي، ويقدّم قراءة نقدية شاملة للمنظومة الاقتصادية العالمية، مشخّصًا جذور التفاوت المتصاعد، ومقترحات لإعادة بناء نموذج اقتصادي أكثر عدالة واستدامة.
عالم مضطرب واقتصاد مختلّ
يأتي الكتاب في سياق دولي يتّسم بتصاعد الحمائية، واستمرار الحرب الروسية–الأوكرانية، والمجازر الإسرائيلية المتواصلة في غزة، وتنامي العنصرية والعداء للمهاجرين.
ويرى موران أن هذه الاضطرابات ليست حوادث منفصلة، بل هي نتاج مباشر لنظام اقتصادي عالمي خلق فجوات شاسعة في الدخل، وأعاد تشكيل التفاوت البنيوي، وعمّم التضخم المُنهِك، وأنتج بيئة عمل هشّة وغير مستقرة.
وينطلق موران من مناهج اقتصادية بديلة، مستلهِمًا أعمال جوزيف ستيغليتز وها-جون تشانغ وأليكس توماس، ليقدّم نقدًا جذريًا للبنية الاقتصادية التي تُرجّح كفة رأس المال على حساب العمل.
بنية اقتصادية غير عادلة
يرى موران أن النظام الاقتصادي المعاصر صُمّم بحيث يستحوذ أصحاب رؤوس الأموال على الجزء الأكبر من الثروة التي ينتجها العمال.
ويشير إلى أن النخب الاقتصادية راكمت نفوذًا سياسيًا مكّنها من إعادة تشكيل القوانين بما يخدم مصالحها، ما أدى إلى إضعاف القوة التفاوضية للعمال وتفاقم عدم المساواة.
ويستشهد بالأرقام: فقد ارتفع عدد المليارديرات من 273 شخصًا بثروة 582 مليار دولار عام 1991 إلى 3,028 مليارديرًا بثروة 16.1 تريليون دولار عام 2025، بينهم ألف ملياردير جديد خلال عقد واحد.
ويمتدح موران النموذج الألماني الذي يمنح العمال دورًا مباشرًا في إدارة الشركات وتحديد الأجور، معتبرًا إياه نموذجًا يكبح تغوّل رأس المال.
سقوط وهم الجدارة
يفنّد موران الفكرة الشائعة بأن الجهد الفردي وحده هو ما يحدد النجاح الاقتصادي، مبينًا أن الحراك الاجتماعي تحدده منظومة مُعقّدة تشمل الفقر، والتحيزات البنيوية، والتعليم غير المتكافئ، والعلاقات والدعم الاجتماعي.
ويضرب مثالًا بالمملكة المتحدة، حيث يكسب العامل من خلفية ميسورة 25% أكثر من نظيره القادم من طبقة مهمّشة، حتى لو كانا في المسار المهني نفسه.
ويرى موران أن تحسين شبكات الحماية الاجتماعية شرط أساسي لتحقيق مساواة حقيقية في فرص النجاح والوصول إلى الطبقات الأعلى.
الضرورة المؤجّلة
يُشكّك موران في الأرقام التي يقدّمها البنك الدولي حول انخفاض الفقر من 30% عام 1990 إلى 8.5% عام 2024، معتبرًا أنها لا تعكس الواقع على الأرض.
ويقترح الدخل الأساسي الشامل كآلية لضمان حد أدنى من الدخل لكل أسرة، لكنه يعترف بأن هذا الحل ليس مناسبًا لجميع الدول، ولا ينبغي أن يُنفَّذ على حساب الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والأمن الغذائي.
ويرى أن الحل الأكثر استدامة هو تكريس الحق في العمل اللائق دستوريًا، بدل الاعتماد الكامل على التحويلات النقدية.
حدود الحوكمة الاقتصادية
في عالم متعدد الأقطاب، تراجعت قوة المؤسسات الدولية وباتت قراراتها في غالب الأحيان غير قابلة للتنفيذ.
ورغم ذلك، يدعو موران إلى إصلاحات واسعة تعزز ديمقراطية مؤسسات مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، بحيث تعمل كأجهزة حوكمة عالمية فعّالة.
لكن المراجعة تشير إلى أن هذه الدعوة مثيرة للجدل، لأنها قد تتيح للدول الغنية تدخلًا أعمق في سياسات الدول النامية، بما قد يزيد اختلال موازين القوة بدل إصلاحها.
تشخيص الاختلالات: ملفات حاسمة في الاقتصاد العالمي
1. أزمة الإسكان العالمية
يعتبر موران أن ارتفاع أسعار الأراضي والإسكان والرهون والديون جعل امتلاك السكن حقًا شبه مستحيل لكثيرين. ويقترح سياسات تشمل:
فرض ضريبة على الأراضي لكبح الاحتكار.
بناء إسكان اجتماعي حكومي واسع.
وضع سقوف للأسعار والإيجارات.
تبنّي نماذج تقدّم السكن مجانًا كما في فنلندا.
2. التضخم والسياسات النقدية
ينتقد موران الاعتماد المفرط على رفع أسعار الفائدة لكبح التضخم، معتبرًا أنها:
تقلّص التوظيف،
وتضرب الفئات الأكثر هشاشة،
ولا تعالج الأسباب الحقيقية للتضخم.
ويقترح بدائل مثل: دعم السلع الأساسية، وفرض سقف للأرباح والأسعار، وزيادة الاستثمار في الطاقة والإنتاج لرفع القدرة الإنتاجية.
3. هشاشة سلاسل الإمداد العالمية
يوضح موران أن تركّز الإنتاج العالمي جعل الاقتصاد الدولي هشًّا بشكل خطير؛ فالصين تنتج 80% من الألواح الشمسية و50% من لوحات الدوائر الإلكترونية، بينما تصنع شركة TSMC التايوانية نصف أشباه الموصلات في العالم.
هذا التركز يجعل أي اضطراب ـ كما حدث في جائحة كورونا ـ قادرًا على شلّ الاقتصاد العالمي. ويقترح موران بناء مرونة عبر تنويع الإنتاج والتوزيع الجغرافي وتشجيع التكرار الصناعي.
نحو تصور جديد للاقتصاد
في الجزء الأخير، يحث موران على إعادة تصميم النظام الاقتصادي باعتباره عملية سياسية–اجتماعية بقدر ما هي اقتصادية.
ويدعو إلى دمقرطة الاقتصاد في مختلف مستوياته. لكنه يُهمل ـ كما تشير المراجعة ـ تحليل أثر السياسات الغربية على الدول النامية وتأثيرها في مفاقمة التفاوت العالمي.
ورغم هذا القصور، يظل الكتاب مساهمة مهمة توسّع أفق النقاش الاقتصادي، إذ يجمع تجارب عالمية بديلة، ويضع أمام القارئ سؤالًا جوهريًا يتعلق بمستقبل الاقتصاد الإنساني في مواجهة التفاوت المتصاعد وأزمة السكن والتضخم واهتزاز سلاسل الإمداد.
ويخلص موران إلى أن إصلاح الاقتصاد العالمي يتطلّب إطارًا مختلفًا جذريًا، إطارًا يعيد توزيع القوة والثروة، ويجعل الاقتصاد أداة لخدمة الإنسان، لا العكس.
المصدر: موقع LSE.uk