الرئيسية » أقلام اقتصادية »
 
21 نيسان 2016

المباني الخضراء... أولوية في السياسة التخطيطية

تعد المباني مسؤولة عن انبعاث نحو 40% من غازات الدفيئة في العالم ونحو 25-40% من استهلاك الطاقة.  كما أن استهلاك الطاقة في العديد من المباني القديمة والجديدة على حد سواء، أعلى بكثير من المطلوب فعليا لأداء وظائفها.  مجلة آفاق البيئة والتنمية عالجت في أكثر من مناسبة الجوانب الاقتصادية والمالية للمباني الخضراء، وتحديدا ما يتعلق بتوفير التكلفة والاستثمار.  مناطق السلطة الفلسطينية تعتبر متخلفة من هذه الناحية بالمقارنة مع دول عديدة أخرى؛ علما أنه من المألوف عالميا بأن جسر الفجوة بين الاستثمار الأولي المرتفع نسبيا في الانشاءات المستدامة من ناحية، والمزايا والتوفير المالي المستقبلي من ناحية أخرى، يكون من خلال استخدام أدوات مالية متنوعة يوفرها التمويل الحكومي والخاص.

ومن بين تلك الأدوات المالية التسهيلات والإعفاءات الضريبية، والقروض للمبادرين بكفالة الحكومة وتحسين عملية توفير الشقق الخضراء للإيجار، كجزء من خطط الحكومة، إضافة إلى القروض "الخضراء" لتجديد العقارات والمنازل، تمنحها البنوك التجارية خلال عملية البيع والشراء...إلخ.

لو طرحنا السؤال التالي: ما هي نسبة الوحدات السكنية التي أنشأت عام 2015 في الضفة الغربية وقطاع غزة بحسب معايير ومواصفات البناء الأخضر؟  النسبة هامشية جدا تكاد تقترب من الصفر.  علما أن المخاطرة الكامنة في تمويل سوق المباني الخضراء تعد هامشية، بسبب التوفيرات المستقبلية المتوقعة.  الحديث هنا يدور حول سوق يشهد نموا هائلا في العالم.  الأبحاث تبين بأنه مقابل كل دولار تستثمره الدولة في البناء الأخضر للإسكان، ستسترد بدلا منه 3 دولارات.  وبلغة إجمالي الناتج المحلي، يتضمن البناء الأخضر في قطاع الإسكان عائدا على الاستثمار (ROI) بمقدار ثلاثة أضعاف.  وفيما يخص القروض للمباني الخضراء، تشير الدراسات إلى أن نسبة الاسترداد تقلل المخاطر بنسبة 20-30%. 

إجمالا، المواطن والاقتصاد كلاهما يستفيدان من البناء المستدام، وبخاصة في مجال استهلاك الطاقة حيث يتم التوفير بنسبة 20-30% على الأقل.
فلسطينيا، يمكننا القول بأن ثقافة البناء تتميز بالإسراف الشديد؛ فالمباني والشقق تبنى بأسلوب غير فعال بتاتا.  قطاع الإنشاءات الفلسطيني محافظ جدا ومن الصعوبة بمكان إدخال تكنولوجيات جديدة اكتسبت زخما في سائر أنحاء العالم.

في العقود الأخيرة بنيت عشرات آلاف المباني في الضفة الغربية وقطاع غزة، دون الأخذ بالاعتبار مواصفات البناء الأخضر والعزل الحراري.  ويتجنب الكثيرون توفير العزل الحراري البيئي النوعي في المباني، بادعاء أنه مكلف.  صحيح أن العزل الحراري يزيد تكلفة البناء بنحو 5%، إلا أن استرداد هذه التكلفة لا يستغرق أكثر من سنة واحدة.  لذا؛ في حال أخذت الجهات المعنية تفكر بطريقة "ماكرو حرارية"، فعندئذ، قد توفر الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 عشرات ملايين الشواقل، فضلا عن المساهمة في خفض جدي لانبعاث غازات الدفيئة.

العزل الحراري في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني قد يؤدي إلى توفير عشرات ملايين الدولارات سنويا.  إذن؛ لا بد أن تبدأ الجهات الحكومية المعنية في التعامل مع البناء الأخضر باعتباره مسألة وطنية تمس الكيان الفلسطيني وليس فقط المواطن الفرد.

وبسبب عدم إلزامية العزل الحراري في المناطق الفلسطينية المحتلة؛ فإن العديد من المواطنين يشغلون المكيفات والمدفآت صيفا وشتاء دون توقف.  
علاوة على ذلك، التخطيط والتصميم السيئان واستخدام التقنيات القديمة، فضلا عن الاستعمال المبذر والتشغيل الخاطئ للأنظمة القائمة في المباني، يعد من بين أهم العوامل المؤدية لظاهرة الاستهلاك المفرط للطاقة.     

ابتكار ادوات مالية محفزة للبناء
ارتفاع التكلفة الإنشائية في قطاع البناء الأخضر يعتبر أحد أهم أسباب تحفّظ معظم الناس من الولوج إلى هذا القطاع.  لكن لو قارنا الزيادة الطفيفة في التكلفة الإنشائية (قد لا تتجاوز 5%) بارتفاع تكاليف الحياة، نجد أن هذه الزيادة مجدية اقتصادية، وبخاصة أن المشتري سيسترد لاحقا هذه الزيادة من خلال التوفير في استهلاك الطاقة، بل وتوفير تكاليف الإنفاق على الصحة (بسبب تحسن جودة الحياة في ظل المباني الخضراء).  النقطة الأساسية هنا أن المصلحة البيئية تنسجم مع المصلحة الاقتصادية.

بلدان عديدة في العالم تحققت بالفعل من الإمكانات الاقتصادية الكامنة في المباني الخضراء.  ألمانيا والولايات المتحدة تقفان في طليعة البلدان المبتكرة للأدوات المالية لتحفيز البناء الأخضر.  ففي كاليفورنيا الأميركية، على سبيل المثال، تم عام 2009 بلورة خطة مبتكرة في مجال المباني الخضراء، تتيح التمويل الكامل للبناء المستدام والترميمات الخضراء للمباني؛ بحيث تحتسب دفعات السداد بناء على ضرائب البلدية.  ووفرت تلك الخطة المسماة Property Assessed Clean Energy ((PACE آلاف فرص العمل الجديدة، كما جلبت مئات ملايين الدولارات من الاستثمارات الخاصة.

إحدى المجموعات المنضوية في ذلك البرنامج (بكاليفورنا) أشارت إلى أنها وفرت أكثر من 130 مليون دولار في الكهرباء والمياه، وذلك في أكثر من 41 ألف منزل نفذ فيهم ترميمات خضراء.  وحاليا تنفذ الخطة في 31 ولاية، كل ٌبطريقتها الخاصة.  وفي حال أن شخصا ما لا يملك نقودا لتركيب ألواح شمسية، فيمكنه القيام بذلك من خلال البرنامج، بحصوله على قرض يتم سداده من خلال الضرائب على العقار.  وإذا ما أفلس المقترض، عندئذ تبقى الضرائب على العقار.

في الممارسة العملية، تتم معادلة مقدار توفير صاحب العقار في الطاقة بالزيادة الضريبية؛ الأمر الذي يتوقف عندما ينتهي المقترض من سداد إجمالي قرضه.   
السؤال المطروح فلسطينيا:  لماذا تغيب الأدوات المالية البسيطة الجذابة القابلة للتطبيق والهادفة إلى تشجيع البناء الأخضر، وكيف يمكننا تغيير هذا الواقع؟
بداية لا بد من الاتفاق على أن البناء الأخضر لا يتضمن توفيرا ماليا وخدمة للبيئة فقط؛ بل تكمن أفضليته في أنه يتطلب تخطيطا أكثر جدية وتعاوناً أقوى بين جميع المنخرطين في عملية التشييد. 
وبما أن مواصفات العمارة الخضراء طوعية وغير ملزمة، فلا بد من توفير الحوافز الاقتصادية التي تتضمن تخفيضات ضرائبية على السلع الخضراء، دعما وقروضا ميسرة لتشييد المباني الخضراء، ودعما للأنظمة الموفرة للطاقة، بالإضافة إلى مبادرة القطاع الخاص لتوفير محفزات مثل خصوم في رسوم التأمين الخاص بالمباني الخضراء، ومنح الأفضلية في قروض الإسكان للمباني الخضراء. 

إنشاء المباني الخضراء وزيادة فعالية الطاقة تعبر أولوية قصوى في السياسة التخطيطية للحكومات والسلطات المحلية.

د. جورج كرزم- مجلة آفاق البيئة والتنمية

مواضيع ذات صلة